|
الفضاء المدني العربي

إغلاق الفضاء المدني العربي: اغتيالات، تهم بالارهاب، وتقييد للعمل النقابي

الاعتقالات والتضييق المستمر الذي يعاني منه المجتمع المدني في البلدان العربية، قوّض الفضاء المدني الى حد كبير، وبدا على أنه يتجه الى الإغلاق التام.

الاعتقالات والتضييق المستمر الذي يعاني منه المجتمع المدني في البلدان العربية، قوّض الفضاء المدني الى حد كبير، وبدا على أنه يتجه الى الإغلاق التام.

باتت مؤشرات هذا الاغلاق أكثر وضوحاً. ففي مصر، اعتقلت قوات الأمن المصرية، ثلاثة من أعضاء "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، من بينهم مديرها التنفيذي جاسر عبد الرازق، ووجه لهم أمن الدولة تهماً متعلقة بالإرهاب. وفي الاردن، تواجه نقابة المعلمين الاردنيين هجمة حكومية شرسة، تنذر بتقييد العمل النقابي، لا سيما بعد قرار الحكومة الأردنية القاضي بإحالة عدد من أعضاء نقابة المعلمين إلى التقاعد.

وفي العراق، لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، ذلك المنبعث من اسلحة كاتمة للصوت تغتال يومياً نشطاء حراك تشرين في مختلف المحافظات العراقية. أما لبنان فيشهد حق التظاهر السلمي انتهاكاً واضحاً، لا سيما مع استمرار استخدام السلطات الأمنية العنف المفرط لقمع التظاهرات التي اندلعت في لبنان خلال الاشهر الماضية.

ويشهد المجتمع المدني اليوم اتجاهاً عالمياً نحو تراجع الفضاء المدني المتاح له، مما يحدّ من قدرة منظمات المجتمع المدني على ممارسة دورها بفعالية، خصوصاً في عملية التنمية. ويشمل هذا الإتجاه التعدي على حقوق المنظمات والأفراد في حرية التعبير والتجمع والتظاهر والتسجيل والوصول إلى الموارد المالية والمعلومات. وعملياً، قد يعني ذلك الإعتداء الجسدي على الناشطين أو اعتقالهم أو إختفاءهم قسرياً أو إغلاق الجمعيات ومنع التظاهر والتجمع. وفي الدول العربية بشكل خاص، يواجه المجتمع المدني تراجعاً في الفضاء المدني بشكل ملحوظ. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الوضع السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية وما تشهده من نزاعات وانعدام في الإستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو إلى عودة بعض الأنظمة إلى الإستبداد والديكتاتورية. 

واقع الفضاء المدني العربي

من المهم التأكيد أن استخدام مصطلح "الفضاء المدني"  لا يُقصَد به ممارسة الحقوق والحريات في العالم المادي فحسب، بل يتجاوزه الى الفضاء الالكتروني. فهو الحيّز الذي يُجرى فيه النشاط الحقوقي المتنوع متعدد الطبقات عبر الوسائل المختلفة. على هذا النحو، فإنه أصبح أكثر وضوحاً، وتعزز بشكل خاص بسبب انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي، خصوصاً في المنطقة، مما ساعد على ظهور الفضاء المدني افتراضياً في الفضاء الإلكتروني.

من ثمَّ، ازداد التهديد في السنوات الاخيرة، حيث تتنامى الجهود الحكومية لتقييد الفضاء المدني في الإنترنت أو على أرض الواقع، عبر زيادة التدابير القمعية المتخذة لوضع المدافعين عن حقوق الإنسان تحت المراقبة بشكل مفرط، مما يؤدي إلى مقاضاتهم بسبب نشاطهم على الإنترنت أو في الواقع.

فمنذ عدة سنوات يشهد الفضاء المدني في الدول العربية تقلصاً سريعاً مع تزايد أنواع الإنتهاكات المرتكبة بحق الناشطين الحقوقيين والصحافيين وتنوع أساليبها. مضايقات، إعتقالات، استخدام للعنف والتعذيب، محاكمات جائرة، وإلغاء الجنسية وحظر السفر وما إلى ذلك من ممارسات، تُضاف اليها إرتفاع حالات الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة بحق الصحافيين والناشطيين، فضلا عن الأزمات الاقتصادية التي انعكست على الصحافة وعلى ضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لموظفيها.

تقييد العمل النقابي

لا زالت الهجمة الحكومية شرسة على العمل النقابي في الاردن، من خلال الاستهداف المتكرر لنقابة المعلمين الاردنيين، بعد قرار الحكومة الأردنية القاضي بإحالة عدد من أعضاء نقابة المعلمين إلى التقاعد.

ويؤكد عضو نقابة المعلمين الاردنيين غالب أبو قديس لـ"مهارات ماغازين" ان استهداف اعضاء النقابة لا سيما بقرار احالة بعضهم الى التقاعد المبكر هو قرار سياسي وليس إداري، هدفه انتقامي وتصفية حسابات ضد النقابة، بسبب اضراب سبتمبر/ايلول 2019، الذي يعتبر الاطول في تاريخ الاضرابات في الاردن.

وأدى الاضراب بحسب أبو قديس الى انتزاع حق المعلمين من الحكومة الاردنية، وهذا الاضراب شكّل حالة حضارية في العمل النقابي المنظّم ضمن الأطر القانونية والدستورية. "هذا الحراك أربك الحكومة وأدى الى ردة فعل قمعية خوفاً من اي حراك نقابي مستقبلي، وقد استخدم قانون الدفاع الذي أقرّ في زمن كورونا كسيف مسلط من الحكومة لتمرير الاجراءات الانتقامية ضد النقابة".

حالة التصعيد بين نقابة المعلمين والحكومة مستمرة منذ أكثر من عام، وذلك بعدما نظمت نقابة المعلمين إضراباً عن العمل استمر لمدة شهر العام الماضي مطالبة بعلاوات مالية، وتم الاتفاق بين الحكومة والنقابة على منح المعلمين العلاوة المالية مطلع العام 2020 مقابل فك الإضراب وعودة المعلمين والطلبة للمدارس.

ومع بداية العام 2020 تم تنفيذ الاتفاق بمنح المعلمين علاوات مالية كل حسب خدمته وتقارير عمله وإنجازه، ومُنح موظفو القطاع الحكومي والعسكري علاوات مالية مماثلة.

ومع تفشي فيروس "كورونا" في الأردن منتصف شهر آذار/ مارس الماضي، قررت الحكومة وقف العلاوات المالية الممنوحة لموظفي القطاع العام بمن فيهم المعلمون، وذلك في حملة تقشف حكومية لمواجهة تداعيات انتشار الفيروس في المملكة.

عند ذلك، اعتبرت نقابة المعلمين القرارات الحكومية نقضاً للاتفاقية الموقّعة بينهما، وهدّدت النقابة باتخاذ إجراءات تصعيدية مقابل استعادة العلاوات، منها الدخول في إضراب جديد عن العمل بداية العام الدراسي في سبتمبر/ايلول2020 ومقاطعة المشاركة في الانتخابات النيابية المتوقع إجراؤها قبل نهاية العام، وغيرها من الإجراءات التصعيدية.

قرر النائب العام في عمّان في 25 يوليو/تموز 2020، حسن العبداللات، وقف نقابة المعلمين عن العمل وإغلاق مقراتها لمدة سنتين، وإصدار مذكرات إحضار بحق أعضاء مجلس النقابة، لعرضهم على المدعي العام المختص، لاستجوابهم عن الجرائم المسندة إليهم.

وأكد العبداللات، وفق وكالة الأنباء الأردنية الرسمية "بترا" إن "النيابة العامة نظرت في عدد من القضايا الجزائية التحقيقية بحق مجلس نقابة المعلمين وهي القضية المتعلقة بالتجاوزات المالية المنظورة لدى مدعي عام هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، والقضية المنظورة لدى مدعي عام عمّان المتعلّقة بالقرارات الصادرة عن مجلس النقابة والتي تمّ تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي واشتملت على إجراءات تحريضية، والقضية المتعلقة بالفيديوهات الصادرة عن نائب النقيب، والتي تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمنظورة لدى مدعي عام عمان".

كما قرر النائب العام لعمّان منع النشر والتداول والتعليق في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كافة على هذه القضايا المنظورة باستثناء الجهة الرسمية المصرح لها بذلك.

استخدام قوانين الارهاب

تستخدم السلطات المصرية تهم "الانضمام الى جماعة ارهابية" او "تمويل الارهاب" لتهديد واعتقال نشطاء حقوق الانسان، والتضييق على الفضاء المدني. وأبرز مثال على ذلك، اعتقال قوات الأمن المصرية في أواخرنوفمبر/تشرين الثاني ثلاثة من أعضاء "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، من بينهم مديرها التنفيذي، ووجه أمن الدولة لهم تهماً متعلقة بالإرهاب، وأمر باحتجازهم 15 يوماً على ذمة التحقيق، ليعود ويفرج عنهم قبل أيام من نهاية العام الجديد.

وتقول نائبة رئيس "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان" روضة أحمد لـ"مهارات ماغازين" ان التضييق على الفضاء المدني بدأ منذ سنوات وليس الان. وهذا الاستهداف مقصود لان عمل المجتمع المدني يكون على تماس مع الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة المصرية".

وتشير أحمد الى ان استخدام تهم "الانضمام الى جماعة ارهابية" و"تمويل الارهاب" ضد المبادرة هو "إعاقة لعمل المؤسسات الحقوقية، وإبقائها تحت رحمة النظام القمعي".

وكانت قوات الأمن اعتقلت جاسر عبد الرازق، المدافع عن حقوق الإنسان والمدير التنفيذي للمبادرة، من منزله في القاهرة.كما اعتقلت كريم عنارة، رئيس قسم العدالة الجنائية بالمبادرة، وجاء اعتقاله بعد ثلاثة أيام على اعتقال محمد بشير، المدير الإداري للمبادرة.

وجاءت الاعتقالات بعد لقاء 13 سفيراً ودبلوماسياً بارزاً، مع أعضاء المبادرة، في وقت سابق من الشهر نفسه، "لمناقشة سبل تحسين أوضاع حقوق الانسان في مصر" حسبما ذكرت المبادرة، علماً أن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي تشن أشد حملة قمع على المعارضة في تاريخ مصر الحديث، مستهدفة ليس فقط معارضيها من الإسلام السياسي، بل أيضا ناشطين مطالبين بالديموقراطية وصحافيين ومنتقديها عبر الانترنت.

وفيما أوقفت الجماعات الحقوقية المحلية المستقلة، نشاطها الى حد كبير، تُعدّ "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، الناشطة منذ 18 عاماً، الأبرز بين العدد القليل منها الذي ما زال يعمل، وتستمر في توثيق انتهاكات الحقوق المدنية، وظروف السجون، والعنف الطائفي، والتمييز ضد النساء والأقليات الدينية.

وخلال مؤتمر صحافي في جنيف، نددت الناطقة باسم مكتب حقوق الانسان في الأمم المتحدة رافينا شامدساني، بالاعتقالات، باعتبارها "تطوراً مقلقاً للغاية يؤكد الهشاشة الكبيرة لنشطاء المجتمع المدني في البلاد"، كما أعربت عن القلق من أن الاعتقالات "جزء من نمط أوسع نطاقاً لترهيب المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان واستخدام تشريعات مكافحة الإرهاب والامن القومي لاسكات المعارضين".

إغتيال الناشطين

في العراق تتعاظم موجة اغتيال الناشطين والصحافيين. فالسلاح المنفلت خارج إطار الدولة والافلات من العقاب، لا يزال أبرز عوامل إغلاق الفضاء المدني وتقييد حق التظاهر السلمي وحرية الرأي والتعبير في العراق.

ويؤكد المدير التنفيذي في "مركز الخليج لحقوق الانسان" خالد ابراهيم لـ"مهارات ماغازين" ان مسوغ الاغتيالات للناشطين يتم عبر تخوين هؤلاء، واتهامهم بالحصول على تمويل من السفارات الاجنبية، وهو أمر عار من الصحة، حيث ان الكثير من هؤلاء الناشطين فقراء لا يملكون قوت يومهم في بلد ثري، وخروجهم للتظاهرات كان من أجل تحقيق عدالة اجتماعية ومحاربة للفساد المستشري.

ويشير إبراهيم الى ان "العراق اليوم يعيش أزمة حريات سواء في حرية التعبير أو التظاهر أو العمل الحقوقي، بوجود تحديات تتمثل في تخوين الناشطين واستخدام قوانين الارهاب لمحاكمتهم، لكن بالرغم من ذلك لا يجب ان نفقد الامل بالطاقات الشابة التي تخرج يومياً لمحاربة الفساد".

وارتفع عدد الناشطين المدنيين الذين تعرضوا للاغتيال منذ شهر اغسطس/آب الماضي الى 19 ناشطاً، مع بلوغ عدد محاولات الاغتيال 29 محاولة، فضلاً عن خطف 7 ناشطين. وتصدّرت بغداد والبصرة وذي قار قائمة أكثر المدن التي سُجّلت فيها الاعتداءات، وهو ما دفع أكثر من 200 ناشط ومدوّن وصحافي، من المحسوبين على الخطاب المدني العراقي، إلى مغادرة مدنهم نحو إقليم كردستان العراق أو تركيا ولبنان، لاعتبارات تتعلق بسهولة دخول حَمَلَة جوازات السفر العراقية إلى كلا البلدين، ضمن إجراءات استباقية منهم أو بسبب تلقّيهم تهديدات بالقتل.

ووقعت آخر تلك الاغتيالات في 15 ديسمبر/كانون الاول الماضي، باغتيال الناشط المدني صلاح العراقي، أحد أبرز وجوه ساحة التحرير في العاصمة، وصاحب شعار "العراق المدني خيارنا" الذي اعتُمد في الاحتجاجات.

واغتيل العراقي في منطقة بغداد الجديدة، شرقي العاصمة، على يد مسلّحَين غير ملثمين، بإطلاق خمس رصاصات عليه، ثلاث منها في الرأس، من مسافة أقل من متر. وحصلت الحادثة على مقربة من حاجز تفتيش للشرطة الاتحادية العراقية، التي لم تتحرّك لإلقاء القبض على المجرمين. والمفارقة أن السيارة المُستخدمة بالهجوم هي نفسها التي تم استخدامها قبل أقل من شهر، في استهداف ناشطين مدنيين شرقي بغداد، وأسفرت عن إصابة أحدهما.

ولم تنجح حكومة الكاظمي في الكشف عن أي جريمة من جرائم القتل، في ظل عدم توصل اللجان التي تُشكّل بعد كل جريمة إلى أية نتائج تُذكر، باستثناء جريمة اغتيال الخبير الأمني العراقي هشام الهاشمي، التي أُعلن فيها عن تهريب المنفذين إلى خارج العراق، من دون الإشارة إلى هويتهم ومن قام بتهريبهم والجهة التي يرتبطون بها.

تقييد حق التظاهر السلمي

يشهد لبنان تسارعاً كبيراً في التضييق على الفضاء المدني. وذلك باستمرار منذ العام ٢٠١٩ حيث، شهدت البيئة القانونية للفضاء المدني تدهورا بعد ان أصبح تسجيل جمعيات المجتمع المدني أكثر صعوبة واتخاذ السلطات إجراءات صارمة ضد الاحتجاجات بحسب تقرير مؤشر استدامة المجتمع المدني 2019، لا سيما مع استخدام  السلطات الامنية العنف المفرط لقمع التظاهرات التي حدثت في لبنان خلال الأشهر القليلة الماضية عبر استخدام الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحيّ في بعض الاحيان.

ولفتت مؤسسة مهارات في تقريرها السنوي في ذكرى ثورة 17 تشرين الى وجوب ان تفي السلطات اللبنانية بتعهداتها الدولية المنصوص عنها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لضمان الحق في التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي المكفولة بمختلف اشكالها ودون اي انتقاص.

وأكدت مهارات ان التظاهرات والتحركات يجب ان تحظى بالحماية بغض النظر عن الافكار والطروحات التي تعلن عنها وان كانت مثيرة للجدل وتصل الى حد رفع المحتجين شعار #كلن_يعني_كلن او #علقوا_المشانق. ان  ذلك لا يبرر تفريق المتظاهرين او عدم تأمين الحماية الكافية واللازمة لهم بحجة قيام تحركات عنيفة مضادة من قبل جمهور مقابل او التهويل بمقتضيات السلم الأهلي للإنتقاص من حقوقهم. فالحق في التظاهر محميّ من العنف مهما كان مصدره. ولا ينبغي ان تُنسَب أعمال العنف المعزولة التي يرتكبها بعض المشاركين إلى باقي المتظاهرين السلميين. كما ان العنف الممارس ضد المشاركين في تجمع سلمي من قبل السلطات، أو جهات اخرى مدنية او حزبية او تعمل بغطاء امني، لا يجعل هذا التجمع غير سلمي".

كما طالبت مؤسسة "مهارات" في تقريرها، السلطات اللبنانية الاعلان عن نتائج التحقيقات التي زعمت انها باشرتها في قضايا تعذيب متظاهرين وموقوفين. كما طالبت بإحترام توصيات الهيئة الوطنية لحقوق الانسان لناحية عدم استعمال القوة المفرطة غير المبررة لفض التظاهرات او استعمال الاسلحة بشكل يهدد حياة المتظاهرين دون مبرر، والتي ادت في الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت في الثامن من أغسطس/آب 2020 الى فقء أعين واصابات خطرة في الوجه والصدر هددت حياة المتظاهرين والحقت بهم أذى جسيماً.