|
الاعلام الرقمي مقيد

النشر الإلكتروني في الدول العربية: جريمة تُحددها "مصطلحات فضفاضة"!

يشهد العالم في الأعوام الماضية تطورًا هائلًا على مستوى الإعلام الرقمي، وتسعى العديد من الدول العربية لإقرار قوانين لتنظيم الفضاء الإلكتروني بغية ضبط ما تسميه بالفوضى الحاصلة في هذا القطاع.

يشهد العالم في الأعوام الماضية تطورًا هائلًا على مستوى الإعلام الرقمي، وتسعى العديد من الدول العربية لإقرار قوانين لتنظيم الفضاء الإلكتروني بغية ضبط اما تسميه بالفوضى الحاصلة في هذا القطاع. 

إن كان ضبط الفوضى أمرًا محمودًا ولا إشكال فيه، إلّا أن العديد من الحكومات العربية تتذرع بهذا الأمر لفرض قيود قاسية على كل مضمون معارض لا ترغب به، ما يشكل خرقًا واضحًا لحرية الصحافة والإعلام، وحرية التعبير بشكلٍ عام، وتتشابه بلدان العراق، الأردن، سوريا، وليبيا في العام 2023 لناحية ازدياد التضييق على المواقع الالكترونية، وبلغ هذا التشابه حدّ استخدام المصطلحات نفسها فيما يخص أسماء القوانين وبعض المواد فيها.

عقوبة لكل ما يخالف "الآداب العامة"

تتذرع العديد من الحكومات العربية بالأخلاق العامة والقيم الأسرية والمسّ بسيادة الدولة وغيرها من المبادئ التي يُجمع عليها الناس لمحاولة شيطنة كل محتوى ينتقد سياستها أو يطالب بمساءلتها في أيِّ من القضايا، وفي لحظة يتم تحويل أي صانع محتوى أو ناقد الى شخص يستحق عظيم العقوبات.

ليبيا

وحجب كل ما يثير النعرات أو الأفكار التي من شأنها "زعزعة أمن المجتمع" واستقراره، ويستند حقوقيون على هذه المواد للقول بأنه لا يمكن الحديث عن حماية حرية التعبير في ليبيا في ظل وجود تشريعات وقوانين تقيدها وتخالف الحقوق والقوانين الدولية.  

ويرى رئيس المؤسسة الليبية للصحافة الإستقصائية جلال عثمان في حديثه لـ "مهارات ماغازين" أن مكافحة الجريمة الإلكترونية مطلوب، ولكن ليس من خلال الحجب والرقابة، والنصوص الفضفاضة السالبة للحرية. كما أن القانون يتعارض مع المنظومة الحقوقية الدولية التي وقعت عليها ليبيا، والإعلان الدستوري، وقد تم التصويت عليه قبل عرضه على منظمات المجتمع المدني المعنية بالعمل الإعلامي والحقوقي، وحتى دون التشاور مع المؤسسات الرسمية في الدولة.

ويشرح عثمان أن قانون الجرائم الإلكترونية قد صيغ بأسلوب رد الفعل، حيث جاء للرد على حالة الفوضى الاستثنائية في البلاد، بينما القوانين يجب أن تصاغ لتتوافق مع حالة الاستقرار، وقد جاءت مواده مقيّدة للحرية، وتمنح السلطات الصلاحيات الكاملة لاستهداف النشطاء، إضافة إلى أن القانون يسمح بالرقابة الشاملة على كل ما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك حجب المواقع والمحتوى دون إذن من السلطة القضائية.

يستمر الحديث في ليبيا هذا العام عن تبعات القانون رقم (5) لسنة 2022، الصادر عن مجلس النواب الليبي في 27 سبتمبر 2022  بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية، ويهدف للحد من هذه الجرائم عبر تحديدها وإقرار العقوبات الرادعة لها ما يحقق العديد من الأهداف ومنها حماية النظام العام والآداب العامة. 

وطالبت العديد من المنظمات الحقوقية بالغائه بسبب مساسه المباشر بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أهمها الحق في حرية التعبير والخصوصية وحماية المعطيات الشخصية.

يكرس القانون القمع  من خلال وضع شروط للنشر الإلكتروني عبر استخدام مصطلحات مبهمة وتحمل عدة أوجه، فتنص المادة 4 منه على أن "استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائل التقنية الحديثة مشروعة ما لم يترتب عليه مخالفة "للنظام العام" أو "الآداب العامة" أو الإساءة إلى الآخرين أو الإضرار بهم. تعابير لا يمكن تفصيلها وتحديد أُفقها،ويُترك للدولة وحدها أن تفسّرها، وتعتقل انتقائيًا كل من تعتبره قد تخطى الخطوط الحمراء.

وتفرض المادة الثامنة منه على الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات حجب المواقع أو الصفحات الإلكترونية التي تعرض مواد "مخلة بالآداب العامة" وتمتلك الهيئة بحسب المادة 7 الحق بمراقبة ما يُنشر ويُعرض عبر شبكة المعلومات الدولية أو أي نظام تقني آخر

وفي أبريل 2023 طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش  مجلس النواب الليبي بإلغاء قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية لسنة 2022 الذي يقيّد حرية التعبير، كما طالبت السلطات في شرق ليبيا الإفراج فورًا عن أي شخص تحتجزه بموجب هذا القانون بسبب تعبيره السلمي.   

لا يوجد بحسب عثمان أي أمل في أن ينتج البرلمان الحالي أيّة قوانين تتوافق مع المنظومة الحقوقية الدولية، أو مع الإعلان الدستوري المؤقت وتعديلاته، لأن البرلمان متمترس في السلطة التشريعية لأكثر من ثماني سنوات، وليست له إرادة حقيقية في تطوير منظومة التشريعات، كما أن الحروب الأهلية والظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد منذ العام 2014 أثرت بشكل سلبي على الجمعيات الحقوقية، ومؤسسات المجتمع المدني الناشئة، وأفقدتها قدرتها على التأثير، حيث انشغل الناس بأشياء يرون أنها أولوية، مثل الأمن، والمواد الأساسية. 

العراق

تنوعت أشكال التضييق على الحريات في العراق في عام 2023 بين سجن ناشطين ومؤثرين حول قضايا التعبير والنشر، والتضييق الالكتروني ومراقبة المحتوى.

وأطلقت السلطات العراقية أوائل العام حملة لمراقبة منصات ومواقع التواصل الاجتماعي من أجل ضبط ما أسمته "المحتوى الهابط" وملاحقة صانعي المحتوى ومحاسبتهم قانونيًا، وبينما نال هذا الإجراء استحسان البعض لأهمية ضبط بعض مظاهر التفلت الحاصل، عارضه كُثر ممن اعتبروه بابًا للمزيد من التضييق على الحريات العامة، واستنادًا على هذا القرار تم توقيف العديد من صنّاع المحتوى و مشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي وسُطرت بحقهم مذكرات بالسجن، كان أشهرها الحكم بالسجن ستة أشهر على المؤثرة وصانعة المحتوى "أم فهد" بسبب "المستوى الهابط".

"الحملة غير موضوعية وغير قانونية، ولا يوجد تعريف للمحتوى الهابط في العراق، ولا يوجد ما يمنع الإنسان أن يقدم محتوى قد يعتبره غيره تافهًا أو لا يرقى للتطلعات". الكلام لرئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان الصحافي مصطفى سعدون الذي شرح لـ "مهارات ماغازين" أن هذه الحملة استهدفت في البداية أصحاب الرأي من نشطاء وصحافيين ومؤثرين ولم تستهدف أصحاب المحتوى الهابط، وكانت انتقائية حيث تم توقيف من ليس لديه أيّة جهة تدعمه بينما تُرك من يُقدّم خطاب الكراهية والتحريض على العنف وينشر المعلومات المضللة بسبب قربهم من السياسيين وأصحاب النفوذ. 

وأكدّ سعدون أن تنظيم الإعلام أمر جيد ومن الضروري تحديد معايير لخطاب الكراهية والمعلومات المضللة، ولكن لا يمكن الاستمرار في اعتماد المصطلحات الفضفاضة القابلة للتأويل والتي قد تُستخدم ضد الأبرياء، بينما تتجنب المخالفين الحقيقيين.  

وكانت بعض الجمعيات الحقوقية في العراق، بالاضافة الى ناشطين/ات قد قاموا في الأشهر الماضية بحملات مناصرة ضد هذه الإجراءات وساهموا نوعًا ما في التخفيف من حدة الاعتقالات.

عقوبات سجنية وغرامات باهظة

يكاد التضييق الالكتروني على النشر وتقويض حرية التعبير بحجة ضبط وتنظيم المحتوى أن يكون الصفة الغالبة في معظم الدول العربية لهذا العام، ولكن ما يميّز دولة عن الأخرى هي حدّة العقوبات التي تُفرض على ما يُنشر ومدى تناسبها مع حجم "الجريمة المزعومة". 

الأردن

وتستخدم المواد 16 و17 من القانون العديد من المصطلحات الفضفاضة ومنها "اغتيال الشخصية"، وإثارة الفتنة"، و"النيل من الوحدة الوطنية" في تسطير أحكام سجنية كبيرة لا تقل عن ثلاثة أشهر وقد تصل الى سنوات (سنة إلى ثلاث سنوات ) كما في المادة 17، فضلا عن عشرات آلاف الدنانير، وهي أثقل مما قد يتحمله أي صحافي او مواطن أردني، ولا تفي هذه النصوص بمتطلبات القانون الدولي الخاصة بصياغة النصوص القانونية بدقة كافية للسماح للأفراد بتنظيم سلوكهم بمقتضاها.

ودعت "هيومن رايتس ووتش" و"أرتيكل 19"، وعدد من  المنظمات الأخرى الأردن الى سحب قانون الجرائم الإلكترونية كونه يهدد حرية التعبير والحق في المعلومات، ولن يحقق في النهاية أهداف الحكومة الأردنية المعلنة المتمثلة في التصدي لـ "الأخبار الكاذبة"، و"الكراهية"، و"القدح والذم" على الإنترنت.

أثار قانون الجرائم الإلكترونية الأردني المقر حديثًا حفيظة العديد من الناشطين والجمعيات المدنية التي اعتبرته ضربة قاضية لحرية التعبير في بلد يُعد واحدًا من الدول القليلة في الشرق الأوسط التي حافظت على نوع من الاستقرار خلال الأعوام الماضية، وفي تموز/يوليو 2023 أقر مجلس النواب الأردني مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، ويتألف من 41 مادة.

اللافت في هذا القانون هو قيمة الغرامات الهائلة التي تحتويها مواده، فتنص المادة 15(أ)على سبيل المثال على أنه يعاقب كل من قام  قصدا بإرسال أو اعادة ارسال أو نشر بيانات أو معلومات عن طريق الشبكة المعلوماتية أو تقنية المعلومات أو نظام المعلومات أو الموقع الالكترونية أو منصات التواصل الإجتماعي تنطوي على أخبار كاذبة أو ذم أو قدح أو تحقير أي شخص بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن (20000) عشرين ألف دينار ولا تزيد على (40000) أربعين ألف دينار.

كما وتمنح الفقرة (ب) من المادة نفسها النيابة العامة الحق في ملاحقة الجرائم المنصوص عليها في الفقرة (أ) دون الحاجة الى تقديم شكوى أو ادعاء بالحق الشخصي اذا كانت موجهة الى احدى السلطات في الدولة، أو الهيئات الرسمية، أو الإدارات العامة. 

سوريا

لم يعد الحديث عن انتهاك الحريات العامة في سوريا أو القمع السياسي بالأمر الجديد، في دولة شهدت الصراعات السياسية والعسكرية وعانت من عدم الاستقرار لسنوات طويلة، ولطالما عانى الناشطون والأصوات المعارضة من الاعتقالات في ظل سيطرة القبضة الأمنية على البلاد.

ولا يزال الرأي العام السوري منشغل في العام 2023 من تبعات قانون الجريمة المعلوماتية وهو القانون رقم 20 لعام 2022 الذي أصدرته الدولة في آذار/مارس 2022 واُعتبر بمثابة تكريسًا لقمع حرية الرأي والتعبير، واشتهر بالعقوبات القاسية والغرامات الضخمة.

ويُعاقب القانون بحسب المــادة 27  كل  مـن أنشـأ أو أدار موقعـًا  علـى الشـبكة بقصـد إثـارة أفعـال تهدف أو تدعـو إلـى تغييـر الدستور بالإعتقــال المؤقــت مــن ســبع ســنوات إلــى خمــس عشــرة ســنة وغرامــة مالية قد تصل إلى 15 مليون ليرة سورية، الأمر الذي يُغلق الباب أمام أي دعوة مستقبلية لتعديلات دستورية محقة. 

كما تنص المادة 28 من القانون علـى أنه يعاقب بالسجن المؤقت من ثلاث سنوات الى خمس سنوات وغرامة  قد تصل إلى 10 ملايين ليرة سورية  كل مـن قـام بإحدى وسـائل تقنيـة المعلومـات بنشر أخبـار كاذبـة علـى الشـبكة مـن شـأنها النيـل مـن "هيبـة الدولـة" أو "المساس بالوحـدة الـوطنيـة". وتُعد هذه التعابير الفضفاضة أساس أي اعتقالات تعسفية.

وبحسب الصحافية السورية يارا بدر فإن القانون بذاته كما العديد من النصوص القانونيّة في سوريا يمثّل إشكالاً من حيث الصياغة اللغوّية للعديد من مواده، والتي تعتمد جملًا غير قابلة للقياس من قبيل: جرائم النيل من هيبة الدولة والمساس بالهوية الوطنية أو القومية. 

و"بالطبع يمكن أن نجد مواد قانونيّة مُقاربة لهذه في بعض التشريعات لدول أخرى، لكن الفارق الأساسي هو في طبيعة عمل النظام القضائي في تلك الدول أو بعضها عن سوريا، وتحديدًا في استقلاليّة القضاء وفي اعتماد المحاكمات العادلة والشفافة والعلنيّة، حيث  إنّ غياب مفهوم دولة القانون عن سوريا لصالح الدولة الأمنيّة يجعل النص القانوني أوّلاً وأخيرًا وسيلة لإخضاع وقمع الحريات الفردية والمجتمعيّة".

وتشرح بدر في حديث لـ "مهارات ماغازين" أن العديد من الصحافيين السوريين والناشطين تعرضوا للتوقيف والمُساءلة على خلفية قضايا نشر الكتروني في الفترة الماضية منهم  الصحافي وضاح محي الدين الذي اعتقل في منتصف كانون الثاني 2021 من قبل قسم الجرائم الإلكترونية بفرع الأمن الجنائي بحلب، وتمّ تحويله إلى دمشق، بسبب منشورات على الفيسبوك، خرج بعدها بعفوٍ رئاسي في أيّار/مايو من العام نفسه.

كما تم توقيف الصحافي علي داوود مؤخرًا في أيلول/ سبتمبر 2023 في مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية، بسبب نشره منشورًا على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيه ارتفاع أسعار المحروقات، وعاد وأُطلق سراحه في 1 تشرين الأول بعد عرضه على القضاء. 

وبحسب بيان للشبكة السورية لحقوق الإنسان نشرته في آب الماضي، فإن القانون رقم 20 الذي أصدره النظام السوري كرس قمع حرية الرأي والتعبير وتسبب في عشرات حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب ووثقت الشبكة قرابة 146 حالة اعتقال تعسفي وقتل على خلفية القانون منذ صدوره.