|
مصر والفضاء المدني

مصر: الفضاء المدني تحت الحصار

اعتداءات متنوعة ضد المجتمع المدني ما بين المنع من السفر والتشهير والاعتداء البدني وصولاً الي الاعتقال

تصاعد كبير ومستمر تشهده حالة الحصار الكبيرة التي تفرضها السلطات المصرية على منظمات المجتمع المدني، وتأتي في إطار منهجية يتبعها النظام تستهدف اغلاق المجال العام بشكل تام، وتقويض أي جهود للمطالبة بالديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.

فالسلطات التي مارست تأميماً مقنعاً على بعض وسائل الإعلام العاملة داخل البلاد بشكل عام وفرضت قبضتها الأمنية عليها، لا يتسع صدرها لترك أي هامش للعمل المدني، وتصر بشكل كبير على عدم ترك أي هامش يسمح لكشف أو فضح ممارستها او المطالبة بتحسينها.

والهجوم الذي تعرضت له المبادرة المصرية باعتقال ٣ من قادتها على خلفية أنشطة المبادرة الداعمة لحقوق الإنسان، ما هو الا حلقة جديدة في مسلسل من الانتهاكات في إطار حملة ممنهجة ضد الفضاء المدني بدأتها السلطات إبان حكم المجلس العسكري في أعقاب ثورة ٢٥ يناير 2011، وتصاعدت بشكل كبير وملحوظ مع وصول الجنرال عبد الفتاح السيسي الى الحكم في البلاد، فشهد حكمه اعتقالات بالجملة، وصدرت أحكام بمنع السفر في حق العشرات من النشطاء في منظمات المجتمع المدني وتجميد اموال العشرات من منظمات من بينهم ٧ منظمات رائدة في الدفاع عن حقوق الإنسان، فضلاً عن صدور العديد من التشريعات التي قيّدت عمل المجتمع المدني وسمحت بتدخلات كبيرة من قبل الأجهزة الأمنية في عملها، كما سمحت بمحاكمة نشطائها بتهم الإرهاب وحبس العديد منهم لفترات طويلة احتياطياً دون محاكمة، فضلاً عن قانون جرائم الإنترنت الذي سمح للسلطات بفرض رقابة على شبكة الإنترنت وحجب المواقع.

قانون "تقييد الفضاء المدني"

في شهر يوليو/ تموز ٢٠١٩، وافق البرلمان المصري على القانون رقم ١٤٩ لسنة ٢٠١٩ والمعنيّ بتنظيم عمل منظمات المجتمع المدني. وفي شهر أغسطس/آب من العام نفسه، أقر الرئيس عبد الفتاح السيسي القانون الجديد الذي يمنح صلاحيات واسعة وفضفاضة لأجهزة الأمن للتدخل في عمل وانشطة المنظمات وتقييدها.

هذا القانون الذي رفضته منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، حظر على منظمات المجتمع المدني القيام بالعديد من الأنشطة التي تعدّ من صلب دورها وعملها وابرزها حظر اجراء استطلاعات الرأي او اعلان ونشر نتائجها وكذلك الأبحاث الميدانية بدون موافقة من قبل أجهزة الأمن، كما احتوى على العديد من المصطلحات الفضفاضة التي تمكّن السلطات من تطويعه لمحاصرة المجتمع المدني، مثل حظر الأنشطة السياسية او أي انشطة من شأنها الإخلال بالأمن القومي، وهي مصطلحات لا يوجد تعريف واضح ومحدد لها في أي من القوانين المصرية، وسبق ان استخدمت هذه المصطلحات بشكل موسع في قوانين اخري مثل قانون العقوبات، ومن بعده قانون الإرهاب. وبموجبها قيدت العديد من الحقوق والحريات في مصر، وحوكم بسببهما العديد من الصحفيين والمعارضين السياسين.

كما حظر القانون على منظمات المجتمع المدني التعاون مع منظمات او جهات اجنبية او الاستعانة بأي خبرات أجنبية، وسمح للسلطات التنفيذية بحل المنظمات وإغلاقها، كما اجبرها على تقديم كافة المعلومات والبيانات التي تطلبها الأجهزة الأمنية حول عملها.

وفي بيان لها، رفضت ١٠ منظمات مصرية بارزة هذا القانون واعتبرت انه يهدف الى إعادة تسويق القمع الأمني للفضاء المدني.

يقول المحامي بالنقض محسن البهنسي والذي اعتقل وحبس احتياطياً لمدة ٥ أشهر على خلفية دفاعه عن المتهمين في قضايا الرأي في تصريحات خاصة لـ"مهارات ماغازين": "كنت رئيس لجمعية تسمى مؤسسة الحماية القانونية للدفاع عن غير القادرين وحقوق الإنسان، وقمتُ بالتقدم بطلب لحل وإغلاق مؤسستي اختيارياً وذلك خوفاً من المسألة القانونية والعقوبات والقيود الكبيرة  المفروضة على المنظمات بموجب هذا القانون". ويضيف: "لقد شرع هذا القانون ليساعد فقط المنظمات المقربة من الدولة، وبسبب خشيتي من الغرامات الكبيرة التي يصعب تسديدها، قررتُ إغلاق مؤسستي المشهرة بموجب القانون القديم لأن السلطات تطالب بتوفيق الاوضاع في ظل قيود وظروف شديدة الصعوبة تتعلق بالعمل الحقوقي وتمويله".

ويضيف البهنسي:"كنا ننتظر أن تحسن اللائحة التنفيذية للقانون تلك الصعوبات والعراقيل الكبيرة المفروضة على المجتمع المدني ولكن هذا لم يحدث، الأمر الذي سيكون عائقاً أمام الجمعيات الاهلية والمؤسسات لتوفيق اوضاعها والعمل وفقاً لذلك القانون، وبموجبه ستتمكن السلطة التنفيذية من حلّ الجمعيات وايقافها".

ويري البهنسي أن "النظام الحالي هو نظام طاعة ومستبدّ، ولكي يضمن بقاء وجوده، كان من الضروري ان يقوم بتهميش المجتمع المدني من خلال العديد من الإجراءات ومنها اصدار القوانين والتشريعات التي تسمح له بذلك".

"قانون الإرهاب" وأثره على الفضاء المدني

لم تكتفِ السلطات المصرية بإيجاد قانون قمعي للفضاء المدني ترفضه كافة المنظمات بهدف حصار النشطاء وملاحقتهم، بل الواقع الفعلي ان غالبية المهتمين بالشأن العام الذين تعرضوا للاعتقال والتحقيقات واجهوا تهم بالإرهاب واستجوبتهم نيابة غير مختصة وسيئة السمعة، وهي نيابة أمن الدولة العليا، وكان العديد من نشطاء المجتمع المدني والمحامين الحقوقيين من ابرز الفئات التي اعتقلت ومثلت للتحقيقات بموجب القانون رقم ٩٤ لسنة ٢٠١٥ والمعروف بـ"قانون الإرهاب" والذي منح الأجهزة الأمنية سلطات قمعية غير دستورية لم تكن مسبوقة.

تمثلت الاجراءات بموجب قانون الارهاب بتقييد الحرية دون العرض على النيابة لمدد تصل لشهر، وايضاً حبس المتهمين احتياطياً دون محاكمة لسنوات، كما اعتمد القانون على مصطلحات ومواد فضفاضة تسمح للسلطات بفرض قبضتها على العمل العام في مصر وملاحقة من تشاء وتقييد الحريات بشكل خانق على الفضاء المدني.

وكان محسن بهنسي أحد المحامين الحقوقيين الذين تعرضوا للاعتقال ومثل للتحقيق بموجب "قانون الإرهاب". يقول: "للأسف كل قضايا الرأي التي تُعرَض على نيابة أمن الدولة العليا بمحضر تحريات من قبل الاجهزة الأمنية، يتم تغليفها وتأسسيها باتهامات متعلقة بالإرهاب وفقاً لقانون الارهاب"، مشيراً الى ان هذه التهمة تتيح للسلطات تبرير الاعتقال أمام الموطنين والمجتمع الدولي بان القبض عليهم لا يتعلق بآرائهم وعملهم وانما محاكمتهم ترجع الى وجود قضايا إرهاب ومؤامرات على مصر، وهي مزاعم تتيح للسلطات كسب تعاطف الرأي العام".

اعتقال المدافعين عن حقوق الإنسان

وكانت السلطات ألقت القبض على المحامية الفائزة بجائزة "لودوفيك تراريو" ماهينور المصري من أمام نيابة امن الدولة العليا في ٢٢ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩ عقب حضورها التحقيقات مع عدد من المتهمين في القضية المعروفة بـ"قضية ٢٠ سبتمبر"، ولا تزال محبوسة احتياطياً حتى الآن.

وقالت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان إن محاميها عمرو إمام اختطف من منزله فجر ١٦ اكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٩، وتم اقتياده الى مكان غير معلوم قبل ان يظهر متهماً بالإرهاب امام نيابة أمن الدولة العليا في القضية ٤٨٨ لسنة ٢٠١٩ (حصر امن دولة عليا)، وظلّ محبوساً احتياطياً لمدة ١٠ أشهر على ذمة التحقيق قبل ان يتم تدويره ووضعه في قضية جديدة حملت رقم ٨٥٥ لسنة ٢٠٢٠ (حصر أمن دولة)، ولا يزال محبوساً احتياطياً على ذمتها حتى الان في ظل تجاهل تام لمطالب الشبكة باطلاق سراحه.

الباحث في المبادرة المصرية باترك جورج زكي ألقيَ القبض عليه من مطار القاهرة اثناء عودته من ايطاليا في ٧ فبراير/شباط ٢٠٢٠ وتعرض للاحتجاز والتعذيب في احد مقرات الأمن الوطني قبل عرضه على نيابة امن الدولة بتهم التحريض على التظاهر والإرهاب، ولا يزال حتى الآن محبوساً احتياطياً بقرارات متتالية من النيابة ودوائر الارهاب.

واجهت الغالبية العظمى من النشطاء في المجتمع المدني المصري الذين ألقيَ القبض عليهم، تهماً بالإرهاب واغلبهم لا يزال سجيناً حتى الآن، ومنذ ما يزيد عن عام بقرارات تجديد حبس من قبل "نيابة أمن الدولة العليا" او دوائر الارهاب، وهي محاكم جنايات استثنائية تختص بنظر قضايا الإرهاب. هؤلاء لم تتم إحالتهم الى المحاكمة الجنائية او اطلاق سراحهم وحفظ التحقيقات واسقاط الاتهامات ضدهم، الأمر الذي جعل الحبس الاحتياطي بمثابة الاعتقال الإداري في حقهم، لاسيما وان وضعنا في الاعتبار ان الجهة التي تصدر تلك القرارات هي نيابة امن الدولة، علماً ان الدليل الوحيد الذي تستند عليه هو تحريات الأجهزة الأمنية.

وتمثل قضية الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح واحدة من النماذج الصارخة على اداء السلوك القمعي. فبعد ٦ أشهر فقط من اطلاق سراحه عقب انهاء حكم قضائي بالسجن لمدة ٥ سنوات بتهمة التظاهر في عام ٢٠١٣، إعتقل في ٢٧ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩، وعُرِضَ على نيابة أمن الدولة العليا متهماً بالإرهاب على ذمة القضية رقم 1356 لسنة 2019، وتقرر حبسه احتياطياً على ذمة القضية منذ تاريخ القبض عليه. ومنذ اعتقاله، لم يتبدل الحال رغم مطالب منظمات المجتمع المدني باطلاق سراحه، وتلك القضية نفسها حبس احتياطياً على ذمتها المدوّن والمدافع عن حقوق الإنسان محمد أكسجين.

كما تضم القضية أيضاً الدافع عن حقوق الإنسان ومدير مركز "قضايا" محمد الباقر الذي القبض عليه في ٢٩ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩ من داخل نيابة أمن الدولة اثناء حضوره للتحقيق مع علاء عبد الفتاح في واقعة صارخة توضح خطورة نيابة أمن الدولة العليا في التعامل مع المحامين وفي مصادرتها لحق الدفاع، ومنذ تاريخ القبض عليه لا يزال الباقر محبوس احتياطياً دون محاكمة حتى الآن.

 عشرات من الصحافيين والمحامين والمهتمين بالشأن العام واجهوا نفس الاتهامات ونفس المصير دون رادع، وكان آخرهم ٣ قيادات من "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، حيث ألقي القبض عليهم في نوفمر/تشرين الثاني، حيث قامت قوات الأمن يوم ١٩ نوفمبر بالقاء القبض على مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية جاسر عبد الرازق من منزله في القاهرة بعد أن القت القبض يوم ١٨ على مدير "وحدة العدالة الجنائية" في المبادرة كريم عنارة، وكان ذلك بعد ايام من القاء القبض علي المدير الاداري للمبادرة محمد بشير من منزله في ١٥ من الشهر ذاته، ثم قامت بعرضهم على نيابة امن الدولة العليا بتهم الارهاب ونشر الاخبار الكاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ثم قررت النيابة حبسهم احتياطياً علي ذمة التحقيقات، وقد تعرضوا للمعاملة القاسية وغير الانسانية في مقر اعتقالهم قبل ان تساهم جهود المجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني في اخلاء سبيلهم بعد ايام من حبسهم.

ويقول محسن البهنسي الذي أخليَ سبيله على ذمة القضية ٨٥٥ لسنة ٢٠٢٠ في ٢٤ أغسطس/آب بعد ٥ أشهر قضاها في الحبس الاحتياطي بتهم الإرهاب لـ"مهارات ماغازين" إن القبض على المحامين العاملين في منظمات المجتمع المدني "يأتي في إطار عام يستهدف المواطنين والنشطاء وأصحاب الرأي"، معتبراً أن "القبض عليهم يستهدف إسكات مطالب إخلاء سبيل المحبوسين احتياطياً لفترات طويلة، خلافاً للقانون في قضايا الرأي". ويذكر أن المحامين والصحافيين "أكثر الفئات التي تتعرض للاعتقال ومواجهة تهم بالإرهاب على خلفية عملهم، ثم اضيف اليهم الأطباء بسبب تفشي جائحة كورونا على خلفية إدلائهم ببيانات ومعلومات حول اعداد المصابين بها وكشفهم عن الاوضاع الطبية المتعلقة بهذا الوباء".

وعن تجربته الشخصية، يروي البهنسي انه "تم سؤالي أمام جهاز الامن الوطني ونيابة امن الدولة العليا عن عملي ودفاعي عن المحبوسين احتياطياً في قضايا الرأي وعن أسباب قيامي بذلك، كما تم التطرق الى نشري على صفحات التواصل الاجتماعي معلومات حول تلك القضايا". ويضيف: "رغم توضيحي بأن ذلك لا يشكل اي جرائم قانونية، إلا أنني واجهتُ تهماً بالارهاب ونشر الاخبار الكاذبة وتم حبسي لمدة ٥ أشهر كاملة في ظروف احتجاز سيئة صاحبت انتشار جائحة كورونا وبدون تحقيق عادل، كما حُرمتُ من الاتصال بمحامي ومن زيارات الأسرة او العرض على النيابة في جلسات تجديد حبسي الاحتياطي".

المحاكمة الصورية لنشطاء المجتمع المدني

في شهر ديسمبر/كانون الأول ٢٠١١، قامت أجهزة الأمن باقتحام مقرات عدد من منظمات المجتمع المدني المصري والقبض على عدد من العاملين فيها كما اعدت قائمة ضمّت العشرات من المنظمات العاملة في البلاد من بينها منظمات محلية واخرى دولية، ووجهت اليهم، بموجب قانون العقوبات، تهماً متعلقة بنشاطهم في مجال المجتمع المدني، وكان ابرزها تلقي التمويلات وتأسيس جمعيات ومنظمات دون ترخيص والرشوة الدولية.

واستندت السلطات في ذلك الى عملهم في مجالات التنمية والدفاع عن حقوق الإنسان، وفتحت في مواجهتهم القضية الأغرب في التاريخ المصري ان لم تكن في تاريخ القضاء بشكل عام، فلم يسبق ان شهدت ساحات القضاء محاكمة مستمرة منذ نحو ١٠ سنوات دون قرار بالإحالة لمحكمة الجنايات او حتى إغلاق الملف واسقاط الاتهامات.

وانتدبت السلطات قضاة للتحقيق في تلك القضية واحالت نحو ٤٣ من المحتجزين للمحاكمة، بينما لا تزال التحقيقات مستمرة في النصف الآخر من القضية حتى الآن.

وفي ما يتّصل بالنصف الأول، مثل المحتجزون أمام المحاكمة الجنائية وصدرت في حقهم احكاماً بالسجن لفترات متفاوتة وصلت الى السجن لمدة ٥ سنوات. وفي شهر ابريل/نيسان ٢٠١٨، قبلت محكمة النقض المصرية الطعن الذي تقدّم به ١٦ من المتهمين المدانين على الحكم الصادر في حقهم، وقررت اعادة المحاكمة. وفي ٢٠ ديسمبر/كانون الاول ٢٠١٨، قررت محاكمة الجنايات براءة جميع المتهمين في القضية.

ولم يكن قرار محكمة النقض بقبول الطعن واعادة المحاكمة ثم براءة جميع المتهمين في النصف الأول من القضية، كافياً لاغلاق نصفها الثاني، ونحو ١٠ سنوات لم تكن كافية لقضاة التحقيق للوصول الى نتيجة في القضية واحالتها الى المحاكمة الجنائية او اغلاق الملف واسقاط التهم، وهو ما يدل على ان القضية ما هي الا محاكمة صورية تستهدف حصار الفضاء المدني واصدار قرارات غير قانونية بتجميد الاموال والمنع السفر وتركها بشكلها الحالي كسيف معلق على الرقاب.

وتعليقاً على القضية ١٧٣، يقول البهنسي إن "النظام المستبد، وكي يضمن بقاءه ووجوده، كان ضرورياً أن يسعىالى إضعاف واسكات المجتمع المدني المستقل،وأن تترافق الاجراءات التي يتخذها ضد المجتمع المدني مع قضية ضد النشطاء البارزين وخصوصاً من كان محسوباً منهم على ثورة ٢٥ يناير، كما ان يصاحب ذلك حملة من الهجوم الاعلامي لايهام الرأي العام بأن مصر تتعرض لمؤامرة كبيرة وكان المجتمع المدني سبباً فيها".

اما النصف الثاني للقضية والذي شمل العشرات من منظمات المجتمع المدني الفاعلة، فلا يزال حتى الآن مجهول المصير، ولم تنتهِ فيه التحقيقات الى أي نتيحة، وقد مثل للتحقيق فيها العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان كان ابرزهم عزة سليمان وعايدة سيف الدولة وماجدة عدلي ومحمد زارع ومزن حسن وآخرين، وقد تقرر إخلاء سبيل البعض بكفالة مالية والبعض الآخر دون توجيه أي اتهامات.

وتقرر بمناسبة التحقيقات في تلك القضية تجميد حسابات وأموال ما لا يقل عن ٧ منظمات فاعلة في الدفاع عن حقوق الإنسان ومنع حوالي ٣٠ من النشطاء من السفر من ابرزهم جمال عيد وسام بهجت ومحمد زارع.

 

 

تشهير وتهديدات وبلطجة

وعقب تجمع المارة، اطلق المعتدون رصاصاً في الهواء ثم فروا هاربين وتركوا دراجة نارية كانوا يستقلوها وسقط منهم هاتف محمول. وبعد ذلك، حضر ٣ رجال بملابس مدنية يحملون جهاز لاسلكي وعرفوا عن انفسهم بأنهم رجال شرطة ثم اخذوا الهاتف المحمولوالدراجة النارية وطلبوا من عيد اللحاق بهم الى قسم شرطة البساتين. وفي قسم الشرطة، اخبروا عيد ان الرجال الثلاثة ليسوا من شرطة القسم. ورغم إبلاغ عيد للشرطة والنيابة بالواقعة، الا انه لم يتم فتح تحقيق جدي او الكشف عن ملابسات الواقعة حتى الآن.

وفي ٢٩ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٩، نشر جمال عيد على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي تدوينة كشف فيها عن قيام مجموعة من رجال الأمن المسلحين بالاعتداء عليه بالضرب في جوار منزله قبل اغراقه بالطلاء.

تلك الطريقة التي تمت بها الاعتداءات وتجاهل السلطات لفتح اي تحقيق ومساعدة الجناة على الإفلات من العقاب في تلك الوقائع، توضح ان مرتكبي تلك الانتهاكات هم من رجال الأمن او بإيعاز منهم، وتهدف الى حمل رسالة تهديد جديدة للعاملين في المجتمع المدني لثنيهم عن القيام بعملهم من جانب، وللانتقام من عيد بسبب آرائه ونشاط المنظمة التي يدريها من جانب آخر.

تتمثل أبزر الانتهاكات التي يتعرض لها بشكل مستمر النشطاء في المجتمع المدني المصري، في التشهير والتحريض المستمر من قبل وسائل الاعلام التي تسيطر عليها الدولة المصرية والمعروفة بقربها من السلطات.

فالعديد من الصحف والقنوات، فردت مساحات واسعة للتشهير بهم ووصفهم بـ"الخونة" و"العملاء" و"الارهابين"، وعمدت الى تحريض المواطنين ضدهم ونشر العديد من المعلومات الكاذبة في حقهم لثنيهم عن لقيام بعملهم لدعم الديمقراطية.

كما تلقى العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان تهديدات عبر حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي او هواتفهم تتوعدهم وتحاول تكميم افواههم، وكان ابزر تلك التهديدات التي تلقاها مدير "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان" جمال عيد الذي تلقى رسائل تهديد من قبل مجهولين، ثم بعد ذلك في ١٠ اكتوبر/تشرين الاول 2019، قام شخصان مدنيان مسلحان بالاعتداد على عيد بالضرب المبرح حيث قام احدهم بمحاولة سرقة حقيبته. وعندما رفض قام المعتدي بضربه بشكل متكرر بعقب سلاح كان يحمله مما ادى الى إصابته بجروح في يده وكسور في ضلوعه.

إغلاق منظمات المجتمع المدني

في السنوات الماضية، قامت السلطات المصرية بإغلاق العديد من مكاتب المنظمات الأجنبية والمحلية العاملة في مصر حيث صدرت قرارات بإغلاق نحو ٢٠٠٠ جمعية خيرية وصادرت ممتلكاتها بمزاعم تبعيتها لجماعة "الإخوان المسلمين".

وقضت الاحكام الصادرة في القضية ١٧٣ لسنة ٢٠١١ بإغلاق مكاتب كلاً من "المعهد الديمقراطي الوطني" و"المعهد الجمهوري الدولي" و"فريدوم هاوس" و"المركز الدولي للصحفيين" ومؤسسة "كونراد اديناور" في مصر.

وفي عام ٢٠١٧ قامت قوة أمنية باقتحام مقر مركز "النديم" لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب وابرزوا أمراً غير قانوني باغلاقه دون توضيح الأسباب.

وفي عام ٢٠١٧ أيضاً قامت السلطات باغلاق ٦ مكتبات عامة، هي "مكتبات الكرامة"، كانت تقدم خدماتها للأطفال مجاناً بهدف تنمية مهارتهم وتوفير مساحة لهم للقراءة والتعلم وممارسة الأنشطة، وذلك دون مبرر قانوني او حكم قضائي.

التضييق على استخدام الإنترنت

تُعدّ ملاحقة شبكة الإنترنت، ارثاً قديماً للسلطات المصرية، ولكن مع وصول الرئيس السيسي الى السلطة، تصاعدت الاجراءات ضد الفضاء الالكتروني وتوسعت بشكل كبير لتشمل منهجية الحجب التي عانت منها صحف ومنظمات المجتمع المدني.

لم يكفِ السلطات انها تلاحق اصحاب الرأي والنشطاء قضائياً وأمنياً على خلفية آرائهم، بل انها انتهجت حجب المواقع من اجل القضاء علي اي هامش يمكن ان يُستغلّ للتعبير عن رأي، خصوصاً وأن الانترنت هامش يصعب عليها ملاحقته ومراقبته.

وقد حجبت السلطات المصرية ما لا يقل عن ٦٣٠ موقع مختلف كان من بينهم حوالي ١٥ موقعاً لمنظمات مدنية ناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان. ومن ابرز المواقع التي تعرضت للحجب موقع "هيومان رايتس ووتش" وموقع "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان" و"ائتلاف النساء النقابات" وموقع "المفوضية المصرية لحقوق الانسان" و"المرصد العربي لحرية الاعلام" و"صحفيون ضد التعذيب" و"مراسلون بلا حدود".

ونشرت "مؤسسة حرية الفكر والتعبير" قائمة برصدها للمواقع المحجوبة في مصر يمكن الاطلاع عليها هنا.

ولا يمكن النظر الى تلك الانتهاكات المتنوعة بمعزل عن منهجية واضحة ورغبة من قبل السلطة بان لا تترك اي فضاء مدني يمكن من خلاله كشف ما ترتكبه من انتهاكات او تطالب عبره بتحسين الاوضاع الانسانية وحالة الديمقراطية، او القيام بأي ادوار تنموية لا تحمل دعاية للنظام السياسي وقياداته. فهي قررت ان تبقى، ليس عبر اصلاحات او بتأييد، ولكن فقط بالحلول الأمنية واسكات كل من حولها، وهو ما لا يمكن ان تضمنه في ظل ترك اي هامش لمجتمع مدني مستقل.