|
غجر العراق

غجر العراق .. هل من سبيل للاندماج؟

من أين ينحدر الغجر وما هي جذورهم وكيف وصلوا إلى العراق؟

لم يخطر ببال فارس محمد عودة (44 عامًا) الذي يسكن قرية الزهور (قرية الفوار سابقًا) في محافظة الديوانية جنوبي العراق أن تصبح مناداته "بالغجري" تحقيرًا له في يوم ما، بعد أن تفاخر لأعوام بغجريتيه التي تمثل امتدادًا لهويته الثقافية.

يقول فارس المكنى بأبي سيف "أنا غجري وكاولي منبوذ من المجتمع"، مضيفاً "نعاني أبشع أنواع التمييز والتحقير كما يصف المجتمع سلوكياتنا بغير الأخلاقية.

يعاني غجر العراق من التهميش والحرمان من أبسط الحقوق والحريات الفردية، إذ تطاردهم وصمة العار كـ "محترفي رقص وغناء" في مجتمع لا ينظر بعين الرضى إلى هذه النشاطات ويطلق عليهم إسم "الكاولية".

ورغم إقرارهم بأنهم فعلًا أقلية الغجر، إلا أن مصطلح الغجر بات يزعج كثيرين، يعتبرون أن في منادتهم "بالغجر" إهانة لهم.

يدعو أبا سيف وهو مختار الغجر إلى تفعيل قرار مجلس الوزراء الصادر في عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بإلغاء لفظة "غجري" و"قرج" ومعاملتهم مواطنين كاملين. ويضيف "ليس لدي مشكلة في التعريف بنفسي كغجري، لكن هل يقبلني المجتمع؟"

غجر.. كاجار.. كاولية

من أين ينحدر الغجر وما هي جذورهم وكيف وصلوا إلى العراق؟

يوضح الباحث في علم الاجتماع الدكتور سامر محمد أن أصل تسمية "الغجر"، بحسب مصادر عدة يعود إلى اللغة التركية وتحديداً كلمة  "كاجار" وتعني "الرُحّل". بينما ترجح مصادر أخرى أن أصولهم قد تكون فارسية نسبة إلى كلمة "كرج" وهي مدينة واقعة بين همدان وأصفهان.

في ما يتعلّق بتسمية "الكاولية"، ينقل محمّد عن المؤلف العراقي طه حمادي الحديثي في كتابه "الغجر والقرج في العراق"، والذي اعتمد بدوره على الأب انستانس ماري الكرملي، أن الكلمة قد تكون متصلة بالنطق الهنديّ لمفردة قوّال وتنطق (كاوّالي). ويشير إلى احتمال أن تكون التسمية نسبة إلى طائفة كانت تقيم في ناحية مولتان في الهند.

كما يذكر أن هذه الجماعة جاءت إلى العراق في موجات متتالية، أولها أيام حكم الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي في القرن الأول للهجرة.

تهجير وتدمير

يقدّرأبا سيف أعداد الغجر في العراق بنحو مليون نسمة ينتشرون في محافظات الديوانية وبغداد والبصرة وكربلاء والموصل وديالى وصلاح الدين، لكن من تبقى منهم في قرية الزهور التي يقطنها هو أيضًا، المراقبة أمنيًا والمحاطة بساتر ترابي، يقارب السبعين عائلة فقط بعدما كانت أكثر من أربعمئة أسرة تقطن فيها قبل عام 2003. لكن العشرات منهم فروا إلى بغداد ومحافظات شمال العراق بعد المضايقات التي واجههوها بسبب عملهم.

ساهمت الصور النمطية عن الغجر في تعرضهم للاضطهاد بشكل مستمر، فبعد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط نظام صدام حسين عام 2003، تعرضت قرية الزهور إلى اعتداءات من قبل مجهولين. فقاموا بتهجير أهلها وهدم البيوت والمدرسة الابتدائية.

وبينما تستمر الاعتداءات على قرية الزهور في الوقت الحاضر من قبل جماعات مجهولة، طالب الأهالي بوضع حراسة أمنية على القرية لغرض تأمينها وعدم السماح لمن هم خارج القرية بالدخول إليها إلا بموافقات مسبقة. ومع أن ذلك يسلبهم حقهم في التنقل بحرية، لكنهم يتنازلون عن هذا الحق بغية الحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم من الاعتداءات الخارجية.

ويرى الخبير القضائي ورئيس اتحاد الحقوقيين العراقين في محافظة الديوانية عباس عنيد أن ضعف الثقافة القانونية لدى المجتمع تساهم بشكل كبير في تزايد ممارسة الاضطهادات ضد الغجر. ومع أن الدستور قد كفل حقوقهم بشكل كامل إلا أن الغجر ما زالوا يواجهون خطر الاعتداءات من قبل الجماعات المتطرفة.

انتصار وانكسار

"الغجر بشر"

استطاعت منار الزبيدي الصحافية والمدافعة عن حقوق الأقليات وعدد من أعضاء فريق "أنا إنسان" أن تقود حملة "الغجر بشر" التي تمكنت من خلالها تحقيق بعض المكاسب للغجر وجذب انتباه الرأي العام لهذه الأقلية. وتفيد الزبيدي عن أن الهدف من الحملة هو منح الغجر الجنسية العراقية وادماجهم في المجتمع كسائر الشرائح الأخرى.

حققت الحملة نجاحًا على المستوى المحلي واستطاعات من خلالها كسب دعم بعض المنظمات كاللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتمكنت من إيصال المساعدات الغذائية والصحية للعوائل التي تسكن في قرية الزهور لقرابة ستة أشهر كما شملت بعض النساء في برامج دعم المشاريع الصغيرة. كما أنها حشدت الرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم هذه الفئة ومسنادتها.

وحقّق الغجر، وفق عنيد، "انتصارًا تاريخيًا" بعد رفع التمييز ضدهم حكوميًا وتشريعيًا وقانونيًا بإعلان حقهم في البطاقة الوطنية بدون إشارة تمييز على أنهم غجر، لكنه يؤكّد أن التمييز ضدهم لم ينتهِ اجتماعياً. وعما إذا كان ثمّة ضرورة لتشريع قوانين تجرّم التمييز العنصري ضد الأقليات في العراق ومن بينهم الغجر، أوضح أنّ "المنظومة القانونية العراقية وافية لحماية جميع الأقليات من مختلف أشكال التمييز". لكنه يرى بأن المشكلة الأساس هي في "عدم لجوء الأشخاص المُعتدى عليهم إلى القانون في كثير من الأحيان، لخشيتهم من مواجهة الأطراف التي تعتدي عليهم والتي غالبًا ما تكون مدعومة من قبل جماعات مسلحة أو أطراف نافذة في الحكومة".

قرية طينية بلا خدمات

بعدما دمّر الهجوم على القرية منازلهم، لم يتبق أمام من عادوا إليها سوى اللجوء إلى بيوت طينية وأكواخ من الخشب، ويعانون من نقص الكهرباء والمياه الصالحة للشرب.

كما يعاني سكان القرية اليوم من عدم توفر البنى التحتية والرعاية الصحية اللازمة، خصوصاً منذ تفشي وباء كوفيد-19.

يقول أبا سيف: "نعاني نقصاً حاداً في المياه نتيجة التقصير الحكومي" ما جعلهم يعتمدون على السيارات الحوضية لتزويد الأهالي بالمياه. ويأمل توسيع المركز الصحي العاجز عن تقديم الرعاية الكافية، خصوصاً  مع زيادة الاصابات بفيروس كورونا. لا يحتوي المركز على الأدوية والمستلزمات الطبية الملائمة، بينما تساعد المنظمات الدولية في توفير العلاجات.

ويوضح أبا سيف أنه بعد جهود أثمرت إعادة افتتاح المدرسة، بعد حوالى 14 عامًا من الانقطاع، "ما زلنا نواجه مشكلة عدم اكتمال الصفوف، إذ نطالب بتوفير مدرسة ثانوية تحتضن الشباب وتساعدهم في إكمال تعليمهم وهذا بدوره يسهّل اندماجهم في المجتمع".

حلم الاندماج

أخذ أبا أسيف على عاتقه مسؤولية تنظيم حملات تطالب بمنح حقوق الغجر وادماجهم في المجتمع. ويرى بأن "هذا الوصم الظالم ليس مُريحًا لهم، فقد تسبب في إقصائهم وعزلهم". غير أنه ما زال يسعى لتحقيق الانخراط في المجتمع ومؤسساته التربوية والدينية. ويقول: "منذ قرابة الستة أعوام، نواضب على إقامة صلاة الجمعة الموحدة في القرية بمساعدة بعض رجال الدين آملًا في تحسين الصورة التي رسمها المجتمع".

ويرى سامر محمد أن الصور النمطية في المجتمع، وعدم تقبله لهذه الفئة، تشكل عائقاً كبيراً أمام إندماجهم وحصولهم على حقوقهم، فأصبح الغجري غير مقبولًا للعمل في القطاعين الخاص والعام. وحتى من يجد منهم فرصة العمل لا يلبث بها سوى فترة قصيرة ريثما يكتشف صاحب العمل بأنه غجري فيقوم بطرده، ما أجبر النساء والأطفال على التسوّل كمصدر أساسي لكسب لقمة العيش.

ويلفت محمد إلى أن فئات مجتمعية من غير الغجر أصبحت اليوم تمارس أعمال الرقص والغناء والترفيه الجنسي بشكل اعتيادي تحت أنظار القانون. ويسأل "لما هذه الصورة النمطية عن الغجر وحدهم؟".