|
مساحة التعبير تضيق

تقييد الصحافيين في تغطية غزة: معايير مزدوجة ورقابة ذاتية!

تعرض عدد من الصحافيين اللبنانيين والعرب العاملين في وسائل اعلامية اجنبية للقمع والتضييق بسبب مواقف لهم من الحرب المدمرة في غزة. لتظهر بشكل واضح إشكالية مستمرة حول اختلاف التغطية الاعلامية الاجنبية والمعايير المتبعة بين حرب غزة وحروب اخرى كالحرب الدائرة في أوكرانيا على سبيل المثال، إضافة الى بروز إشكالية أخرى مرتبطة بحرية تعبير الصحافيين والصحافيات على حساباتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يطرح جدلية ان هذا النوع من الممارسات يعزز الرقابة الذاتية للصحافيين والصحافيات.

منذ بدء الحرب في غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعرض عدد من الصحافيين اللبنانيين والعرب العاملين في وسائل اعلامية اجنبية للقمع والتضييق بسبب مواقف لهم من الحرب المدمرة في غزة.

لتظهر بشكل واضح إشكالية مستمرة حول اختلاف التغطية الاعلامية الاجنبية والمعايير المتبعة بين حرب غزة وحروب اخرى كالحرب الدائرة في أوكرانيا على سبيل المثال، إضافة الى بروز إشكالية أخرى مرتبطة بحرية تعبير الصحافيين والصحافيات على حساباتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات العديد منهم عرضة لملاحقة هذه المؤسسات الاعلامية لنشر آراء تعارض سياسة المؤسسة بالنسبة للحرب الدائرة، مما يطرح جدلية ان هذا النوع من الممارسات يعزز الرقابة الذاتية للصحافيين والصحافيات.

وأشهر هذه النماذج هو التحقيق الداخلي الذي بدأته هيئة البث البريطانية  "بي بي سي" مع ستة موظفين في خدمتها العربية بسبب مواقفهم المزعومة من الحرب على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. وقامت "التلغراف" البريطانية باتهام المحطة بتوظيف صحافيين داعمين لحماس ونشرت اسماءهم وصورهم قبل نتائج التحقيق الداخلي ما يشكل مسا بخصوصيتهم وتشهيرا بسمعتهم. وبعد هذه الخطوة عادت المحطة وأرسلت إلى الصحافيين رسالة إلكترونية أبلغتهم فيها بأنها لن تأخذ أي إجراء تأديبي بحقهم "رغم أن تغريداتهم تضمّنت خرقاً لسياسة مواقع التواصل" الخاصة بالهيئة. كذلك أكدت الهيئة أنّ الصحافيين الذين جرى التحقيق معهم سيخضعون "لتدريب على سياسة مواقع التواصل الاجتماعي والحياد"، إلى جانب دعوتهم للعودة إلى ممارسة مهاهم بشكل طبيعي.

 

كما تقدم بعض الصحافيين باستقالاتهم بسبب طريقة التغطية التي تنتهجها الهيئة في تغطيتها، حيث تنحاز بشكل ملحوظ للرواية الاسرائيلية، مثل الصحافي التونسي بسام بونني، الذي أكد في منشور ان استقالته جاءت لما يحتّمه عليه الضمير المهني على حدّ تعبيره. وأعلن الصحافي اللبناني إبراهيم شمص استقالته من " بي بي سي عربي"، قائلاً على صفحته على الفايسبوك: تقدّمت بالإستقالة احتجاجاً على تغطية الحرب.

متابعة لهذه الاستقالات أعلنت الصحافية أشواق الحناشي على صفحتها على فايسبوك أنها وزميلتها أماني الوسلاتي الاستقالة من محطة +Canal الفرنسية، بسبب الانحياز لاسرائيل في الخط التحريري وعدم الالتزام بالمهنية والحيادية.

في المقابل، واجهت بعض الوكالات الأجنبية ضغوطات سياسية فيما يتعلق بتغطيتها للحرب في غزة، حيث استدعى مجلس الشيوخ الفرنسي الرئيس التنفيذي لوكالة الصحافة الفرنسية فابريس فرايز، بعد اتهام الوكالة بأنها معادية للسامية بسبب عدم وصف منظمة حماس بـ  "الارهابية" خلال تغطيتها للأحداث في غزة.

ازدواجية المعايير!

في المقابل ترى الصحافية المستقيلة من محطة +Canal الفرنسية أماني الوسلاتي في حديث لـ "مهارات ماغازين" أن "الخط التحريري للمحطة كان يمينيا متطرفا، لكن السياسة التحريرية بالنسبة لحرب أوكرانيا كانت واضحة بدعم الطرف الأوكراني والتعبير عن الدعم الفرنسي للمواطنين الاوكران، والحديث عن العقوبات والابادة التي ترتكبها روسيا هناك، بالرغم ان ما حدث بأوكرانيا لا يتعدى الواحد في المئة مما يحدث في فلسطين، حيث منعنا كصحافيين من ذكر أعداد القتلى الفلسطينيين، اضافة الى عدم ذكر ما يحدث في غزة من إبادة جماعية وقتل متعمد للمدنيين".

 في "بي بي سي" كان نمط التغطية منحازًا بوضوح لإسرائيل، خاصة في الخدمة الإنجليزية للمحطة بحسب إبراهيم شمص، حيث تبنت المحطة السردية الإسرائيلية وإن تمايزت عنها أحيانًا في بعض القصص الإنسانية عن غزة. فقد وصل الأمر لتقول كبيرة المراسلين الدوليين ليز دوسيت إنه "على ما يبدو" هناك أنفاق لحماس تحت المستشفيات والمدارس.

الكثير من الانتقادات وجهت الى وسائل الاعلام الاجنبية في تغطيتها للحرب في غزة، "ازدواجية المعايير" هو المصطلح الأكثر استخداما في الجسم الصحافي لاختلاف التغطية بين حرب غزة وأوكرانيا مثلا، يلفت الصحافي المستقيل من "بي بي سي عربي"  ابراهيم شمص في حديث لـ "مهارات نيوز" ان لدى "بي بي سي" دليل تحريري يتبعه الصحافيون العاملون فيها، ينص على الموضوعية والحياد. لكن متابعة تغطية القناة للحرب في أوكرانيا، تظهر انحيازًا واضحًا إلى جانب "كييف" يصل إلى حد البروباغندا. 

على سبيل المثال، يمكن للقارئ أن يلاحظ كيف يتم تناول شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسير العمليات العسكرية الروسية هناك بطريقة سلبية، في مقابل تبني رأي الحكومة الأوكرانية في ما يتعلق بالميدان والحراك السياسي، وهو أمر تتشاركه "بي بي سي" مع أغلبية وسائل الإعلام الغربية. 

لو أردت تحليل هذه الحالة، فبعيدًا عن المعايير المهنية، الأمر يبدو أن "بي بي سي" قد تماهت مع السياسة البريطانية تجاه روسيا، وتجاه القضية الفلسطينية. وبالتالي، لا يعود الانحياز مستغربًا.

ويؤكد شمص " إن التوازن في التغطية لا يعني أن تكتب قصة منحازة لطرف، تقابلها قصة أخرى منحازة لطرف آخر، بل يجب أن تكون القصة الواحدة تتضمن آراء كافة الأطراف إذا ما كانت زاوية المعالجة تسمح بذلك".

يذكر ان العديد من الانتقادات وجهت الى القناة البريطانية للتحقيق مع مجموعة من صحافييها، بسبب تفاعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة فهمت أنها منحازة لـ"حماس"، في حين انه لم يتم التحقيق مع بعض الصحافيين الآخرين الذين عبروا عن آراء تتضمن دعما لإسرائيل. لا سيما، أن "بي بي سي" تعتبر أن دليلها التحريري يسري على حسابات صحافييها، إذًا لا فرق بين الخطأ في مقالات تنشرها وبين تعليقات صحافييها على حساباتهم الشخصية، بل إن الخطأ في مقالات منشورة على منصات المؤسسة بحسب أحد الصحافيين (فضل عدم ذكر اسمه) هو أكثر مسؤولية، لأنه من المفترض أن يراجع رئيس تحرير أو سكرتير التحرير النص قبل نشره.

تعزيز الرقابة الذاتية

"هناك اعتداء على مساحتي الشخصية عند مراقبة حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي، انا لم اخذ ميكروفون القناة، ولا حق لأحد استجوابي، لماذا اساند القضية الفلسطينية؟"، بهذا الرد أكدت الوسلاتي أنها تعرضت لملاحقة عندما وضعت علم فلسطين على حسابها على حسابها على انستغرام من قبل صحافيين عاملين في نفس القناة، كما انها تلقت اتصالا من رئيسة التحرير تقول لها: "انه ليس الوقت المناسب لدعم القضية الفلسطينية". في مقابل، دعم بعض الصحافيين العاملين معها لإسرائيل على منصاتهم من دون أي مساءلة!

خلقت قضية ضرورة التزام الصحافي على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بسياسات المؤسسة جدلية في حرب غزة بعد ملاحقة عدد من الصحافيين من قبل مؤسساتهم، إذ يعتبر رأي أن إلزام الصحافيين باعتبار حساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي جزءًا من السياسة التحريرية للمؤسسة، يحافظ على موضوعية المؤسسة، التي هي بحاجة لتلافي الإشكاليات والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي.

فيما يعتبر رأي آخر أن هذه السياسة تحرم الصحافي من حقه في التعبير عن رأيه بحرية، كما أنها تقف عائقًا أمام بنائه صورةً وجمهورًا ما يعزّز قدرته على الوصول إلى قصص عبر متابعيه.

ولفت شمص إلى أن الرأي الأول يغفل حقيقة أن المؤسسات الصحافية تعبّر عن وجهة نظر، فهي عمليًا تريد من صحافييها أن يلتزموا برأيها لا بالمعايير المهنية على وسائل التواصل الاجتماعي. أما الرأي الآخر، فيغفل حقيقة أن تعليقات الصحافي على وسائل الاجتماعي قد تدخله في مشاحنات لا يريدها هو أولًا، وتسبب مشكلة للوسيلة الإعلامية في الوصول الى المعلومة وتغطية الحدث.

وقال شمص: "بالنسبة لي هو أمر بين أمرين، يحق للصحافي أن يدلي برأيه على وسائل التواصل الاجتماعي بحرية، ولكن الأجدى أن يلتزم بالموضوعية. إلا أنه على المؤسسات التي تلزم صحافييها باتباع سياستها التحريرية على منصاتهم، أن تعلم أنه عندما تخالف في موادها هذا الدليل التحريري فهي تدفع صحافييها إلى مخالفته على حساباتهم بشكل عكسي".

في المقابل، ترى الصحافية اللبنانية في "بي بي سي نيوز عربي" سناء الخوري في حديث لـ "مهارات ماغازين" إن "سياسات بعض المؤسسات الإعلامية الغربية حول الاستخدام الشخصي لمواقع التواصل، خلقت إشكالية كبيرة، بين حاجة تلك المؤسسات لحماية سمعتها وتجنب الإحراج، وبين تحويل تلك السياسات إلى وسيلة ضغط على الصحافيين العاملين لديها، وفرض نوع من الرقابة الذاتية". 

وترى الخوري أنه "في ظلّ انتشار التضليل والأخبار الكاذبة، من المنطقي أن تحثّ المؤسسات الصحافيين على عدم الخوض في سجالات عنيفة، والتزام الدقّة وعدم التحيّز على الدوام، وتجنّب المشاركة بحملات ترويجية، والتفكير بتأثير منشوراتهم على الرأي العام".

ولكن، من ناحية ثانية، فإن "تشديد سياسات مواقع التواصل والاستنسابية في تطبيقها، يؤدّيان إلى تضييق تعسفي على الصحافيين، وتجريدهم من سياقاتهم وهوياتهم، خصوصاً من يأتون من دول تختزن إرثاً تاريخياً من الصراعات والحروب والصدمات". 

برأيها فإن "سياسات مواقع التواصل تجاوزت الغرض منها، وباتت تستخدم كأداة تأديب. فهناك جهات متخصّصة لا تترصّد منصّات المؤسسة الرسمية، بل تنقضّ على حسابات الصحافيين الشخصية، لاسكاتهم، وشنّ حملات تشهير وافتراء عليهم، وافتراض تأويلات لـ لايك من هنا وريتويت من هناك".

وبحسب الخوري فإن هذا الواقع بات ينعكس سلباً على المؤسسات الإعلامية العريقة، "لأنه يظهرها كأنها باتت خارج العصر والزمان، وأنها تجد صعوبة في حفظ مكانتها في عالم رقمي متحوّل، إذ يمكن لأي صانع محتوى أن ينافسها ويتقدّم عليها، لأنه يتصرّف بحرية أكبر، وغير مقيّد باعتبارات الرقابة الذاتية".