|
الافلات من العقاب مستمر

استهداف الصحافيين في حرب غزة: غياب للمحاسبة ومواثيق مشلولة

تتزايد المطالبات الدولية سنويًا لإنهاء الإفلات من العقاب ومحاسبة كل من يعتدي على الصحافة ويحاول تقويضها ومنعها من أداء دورها. ورغم وجود المواثيق الدولية التي تحمي الصحافيين وتفرض تحييدهم عن الصراعات المسلحة، ورغم ارتداء السترات والخوذ الصحافية، إلا أن الجسم الصحافي لا يزال يدفع الأثمان الباهظة ويتعرض للاعتداءات المستمرة والتي غالبًا ما تنتهي إلى لا شيء، ولا يتم محاسبة أحد.

يُحيي العالم في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين، وتتزايد المطالبات الدولية سنويًا لإنهاء هذه الظاهرة ومحاسبة كل من يعتدي على الصحافة ويحاول تقويضها ومنعها من أداء دورها.

وتزامنت هذه المناسبة في العام 2023 مع الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والتي انعكست أيضًا على جبهة جنوب لبنان الذي يشهد بدوره مناوشات مسلّحة منذ ما يقارب الشهرين. 

أودت هذه الحرب بحياة العشرات من الصحافيين من مختلف الجنسيات وتحديدًا الفلسطينية واللبنانية، بالإضافة إلى العديد من الجرحى جراء القصف الإسرائيلي على القرى والبلدات دون تمييز بين مقاتلين، مدنيين وصحافيين.

ورغم وجود المواثيق الدولية التي تحمي الصحافيين وتفرض تحييدهم عن الصراعات المسلحة، ورغم ارتداء السترات والخوذ الصحافية، إلا أن الجسم الصحافي لا يزال يدفع الأثمان الباهظة ويتعرض للاعتداءات المستمرة والتي غالبًا ما تنتهي إلى لا شيء، ولا يتم محاسبة أحد.

الإعتداءات بالجملة

بحضور ممثل عائلة عصام عبد الله، ومشاركة لكل من مراسلة شبكة "الجزيرة" كارمن جوخدار التي أصيبت في الاعتداء، ومراسل "إل بي سي آي" ادمون ساسين عن شهود العيان والناجين، بالإضافة إلى المحامي فاروق المغربي، ومسؤول مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة “مراسلون بلا حدود” جوناثان داغر.

وأكدت النقابة في كلمة ألقتها المنسقة إلسي مفرج أن "إستهداف الصحافيين وقتل الزميل عصام عبدالله هو جريمة حرب موصوفة، واليوم نجدد الوعد اننا سنتابع قضية عصام والزملاء حتى النهاية، وأننا لن نرتاح ولن نترك أي باب قد يوصلنا إلى المحاسبة إلا وسنطرقه"، وطالبت مفرج قوات اليونيفيل أن تقوم بمسؤولياتها ضمن إطار اختصاصها في القرار 1701 وأن تجري تحقيقاً مفصلاً بالجريمة، ومن الجيش اللبناني ان ينشر تحقيقه التقني عن الجريمة.

وخلص تحقيق نشرته  وكالة رويترز في السابع من كانون الأول/ديسمبر 2023 إلى أن طاقم دبابة إسرائيلية هو من قتل الصحافي عصام عبد الله  وأصاب ستة مراسلين في لبنان يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر بإطلاق قذيفتين  بينما كان الصحافيون يصورون قصفّا عبر الحدود.

وتحدثت رويترز مع أكثر من 30 مسؤولا حكوميا وأمنيا وخبراء عسكريين ومحققين في الطب الشرعي لتجميع رواية مفصلة عن الحادث، واستعرضت الوكالة  ساعات من لقطات الفيديو من ثماني وسائل إعلام في المنطقة في ذلك الوقت ومئات الصور من قبل الهجوم وبعده، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية عالية الدقة.

وتُشير رويترز إلى أن المنظمة الهولندية للبحث العلمي التطبيقي (TNO) وهي منظمة مستقلة تختبر وتحلل الذخائر والأسلحة لصالح عملاء مثل وزارة الدفاع الهولندية، قامت بفحص المواد لصالح رويترز في مختبراتها في لاهاي، وفحصت الأجزاء المتبقيّة من القذيفة، وتوصلت  إلى أن القذيفة هي من عيار 120 ملم تم إطلاقها بواسطة مدفع دبابة أملس تم وضعها على بعد 1.34 كم من المراسلين، عبر الحدود اللبنانية.

وعرضت رويترز على الجيش الإسرائيلي النتائج التي توصلت إليها بشأن إطلاق قذائف الدبابات من داخل إسرائيل وطرحت أسئلة تفصيلية إضافية، بما في ذلك ما إذا كانت القوات الإسرائيلية تعلم أنها تطلق النار على الصحافيين، ولكن المتحدث الدولي باسم الجيش الإسرائيلي  اكتفى بالقول "نحن لا نستهدف الصحافيين"، ولم يقدم المزيد من التعليقات.

وقالت رئيسة تحرير رويترز اليساندرا جالوني: "الأدلة التي لدينا الآن والتي نشرناها اليوم تظهر أن طاقم دبابة إسرائيلية قتل زميلنا عصام عبد الله."

وضمن استمرار الاعتداءات على الصحافيين قُتل الصحافيين في قناة الميادين المراسلة فرح عمر والمصور ربيع المعماري في جنوب لبنان في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 أثناء تغطية الصراع الدائر على الحدود، ووضعت العديد من الجمعيات والمؤسسات في لبنان الاعتداء في سياق الخروقات الاسرائيلية المستمرة لجميع المعاهدات التي تدعو لحماية الصحافيين.

يقوم الجيش الإسرائيلي ومنذ بداية الحرب على غزة بمحاولة ثني الصحافيين والمصورين من نقل الصورة، تارة عبر التخويف والتهديد، وتارةً أخرى عبر القتل المباشر والاستهداف، ما يشكل خرقًا واضحًا لكل الأعراف الدولية والإنسانية.

أعلنت نقابة الصحافيين الفلسطينيين في بيان يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر، عن مقتل 63 من الصحافيين والصحافيات منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر (41 من العاملين في فنون الإعلام المختلفة، والباقي من العاملين في الأقسام الادارية والتقنية التابعة للمؤسسات الإعلامية) هذا فضلًا عن أكثر من 30 اعتقال تم لصحافيين في الضفة الغربية. 

من القصص البارزة في استهداف الصحافيين والتي أثارت الكثير من الانتقادات هي حادثة استهداف أسرة مراسل قناة الجزيرة في غزة وائل الدحدوح الذي كان من المراسلين البارزين في تغطية الحرب، وخسر الدحدوح كُلًا من زوجته وابنه وابنته وحفيده الرضيع في غارة اسرائيلية على منزل كانوا قد نزحوا إليه، ووضع الكثير من المتابعين هذا الإستهداف في سياق الاعتداء على الدحدوح الذي كان له مواقف متقدمة في نقل وادانة الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة والدعم للقضية الفلسطينية.

استهداف الدحدوح ليس الأول لقناة الجزيرة، فقد فقدت القناة والجسم الإعلامي في أيار/مايو 2022 المراسلة شيرين ابو عاقلة أثناء تغطيتها لاقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين، قضية شيرين لا زالت نموذجًا للإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين حيث لم يتم ادانة اسرائيل بشكل واضح ولا محاسبتها على هذا الاعتداء، وكانت شبكة الجزيرة الإعلامية قد رفعت  قضية اغتيال شيرين أبو عاقلة إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ومؤخرًا صدر قرار في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن لجنة التحقيق الدولية المستقلّة التابعة للأمم المتحدّة المعنية بالأرض الفلسطينية حول قضية شيرين أبو عاقلة، وخلصت اللجنة إلى الاستنتاج أن قوّات الأمن الإسرائيلية استخدمت القوة الفتّاكة ضد شيرين أبو عاقلة دون مبرر بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان وانتهكت حقها في الحياة.  

إلى لبنان الذي تشهد حدوده الجنوبية مناوشات عسكرية وقصف متبادل بين الجيش الاسرائيلي وحزب الله منذ بداية الحرب في غزة، فقد الجسم الإعلامي في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023 المصور اللبناني في وكالة رويترز عصام عبد الله الذي قُتل باستهداف إسرائيلي لسيارة تضم اعلاميين، واُصيب في الاعتداء شخصين من فريق الجزيرة وهما المصور إيلي براخيا والمراسلة كارمن جوخدار وثلاثة آخرون من وسائل إعلام أجنبية ومحلية.

وطالبت جهات اعلامية عديدة منها نقابة المصورين الصحافيين وتجمّع نقابة الصحافة البديلة ونادي الصحافة بفتح تحقيق دولي بمقتل الصحافي عصام عبد الله، وبذكرى مرور شهر على الإغتيال عقد تجمع “نقابة الصحافة البديلة”، مؤتمرًا صحافيًا بعنوان "منعًا لإفلات المجرم من العقاب" أي مسار للتحقيق والمحاسبة؟ 

مواثيق دولية معطّلة

صدرت خلال عشرات الأعوام الماضية العديد من القوانين والمواثيق الدولية التي تكفل حماية الصحافيين من الاعتداءات، سواءًا في أيام السلم أو الحرب، وتنص المادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1949 على أن الصحافيين الذين يباشرون مھمات مھنیة خطرة في مناطق النزاعات المسلحة هم  أشخاص مدنيون ويجب حمایتھم بھذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعھم كأشخاص مدنيين.

وتؤكد دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمرعن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني (2005) في قاعدتها 34 من الفصل العاشر، أنه يجب احترام وحماية الصحافيين المدنيين العاملين في مهام مهنية في مناطق نزاع مسلح ما داموا لا يقومون بجهد مباشرة في الأعمال العدائية.

وينص القرار 1738 لمجلس الأمن الدولي على ادانة  الهجمات المتعمدة ضد الصحافيين وموظفي وسـائط الإعـلام والأفراد المرتبطين بهم في حالات النزاع المسلح، ويهيب بجميع الأطراف أن توقف هذه الممارسات، ويشير أيضا إلى أن المعدات والمنشآت الخاصة بوسـائط الإعلام تشكل أعيانـا مدنية، ولا يجوز في هذا الصدد أن تكون هدفا لأي هجمـات أو أعمـال انتقاميـة، مـا لم تكـن أهدافا عسكرية.

على أرض الواقع لم تساهم هذه القوانين في تأمين أيّة ضمانات للصحافيين المتواجدين في أماكن الخطر، حيث أثبتت الحروب الماضية مدى هشاشتها العمليّة، وعدم تطبيقها من قبل أيًّ من القوى المتصارعة إلّا ما ندر، وتُقدم حرب غزة اليوم والاعتداءات على جنوب لبنان، نموذجًا واضحًا لهذه الهشاشة حيث تقتل اسرائيل الصحافيين ليلا نهارا دون أي حساب ولطالما اعتبر الجانب الاسرائيلي نفسه خارج المساءلة.

يؤكد المستشار القانوني لتجمع نقابة الصحافة البديلة المحامي فاروق المغربي في حديث لـ "مهارات ماغازين" على هامش لقاء حول اغتيال المصور عصام عبد الله، وردًا على سؤال حول الحلول المتوفرة لضمان حماية الصحافيين وتفعيل هذه المواثيق الدولية، أن الحل الوحيد هو بانهاء الإفلات من العقاب لدى إسرائيل وغيرها من الدول البعيدة عن المحاسبة بحكم النظام الدولي ونظام القوّة الذي يفرض نفسه في هذا المجال، ويضيف مغربي "إذا لم يتم محاسبة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية سنستمر في نفس الدوامة من الاعتداءات المستمرة على الصحافيين كما يحصل كل يوم في غزة"

بدورها تقول النائبة اللبنانية نجاة عون أنه يجب توثيق الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين وضد حقوق الإنسان بشكل دائم، والتواصل مع أعلى المراكز والمؤسسات لإخبار القضية للعالم، وأكدت عون على ضرورة التسلّح بالمواثيق الدوليّة وملاحقة مرتكب الجريمة، ورفع الدعاوى حول ما يحصل من جرائم، والطلب من المنظمات الدولية التحقّق من هذا الشيء، ولا يجب الاعتماد فقط على تقديم الرسائل للجهات الدولية المختصة بل متابعة الأمر باستمرار، للوصول الى الحقيقة والى محاكمة المرتكبين.

وكانت منظمة مراسلون بلا حدود قد رفعت في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023 شكوى إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بشأن ارتكاب جرائم حرب، حيث يتطرق ملف القضية بالتفصيل إلى حالات الصحافيين الذين قُتلوا والاثنين اللذين أُصيبا أثناء التغطية الإعلامية للأحداث الجارية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما يشير إلى التدمير المتعمد، كلياً أو جزئياً، لمباني أكثر من 50 وسيلة إعلامية في غزة.

وانضمت شبكة آيفكس ومنظمات حقوق الإنسان إلى دعوة المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية (مدى) الى الأمم المتحدة لإدانة استهداف إسرائيل الممنهج للصحافيين ووسائل الإعلام الفلسطينية.

عمليًا تستمر معاناة الصحافيين في غزة وستستمر في عدّة مناطق من العالم خاصة التي تعاني من الصراعات المسلّحة ولا عجب بذلك، حيث أن المواثيق الدولية الحامية لهم غير فعّالة، والمجرمين لا يزالوا طُلقاء دون محاسبة، في ظل عالم اعتاد الصمت، واعتاد فكرة انتهاك حياة أبرياء ذنبهم الوحيد أنهم يقومون بواجبهم المهني.