لن تستطيع أي هيئة رسمية أن تقاتل لتحصيل حقوق الصحافيين، كما يستطيع الصحافيون أنفسهم. فالصراع الدائم بين السلطة التي تصارع لتحصيل منفعتها، وبين الصحافيين الذين يخوضون معارك تشريعية لتحصيل حقوقهم، ولانتاج مادة لا تقيّدها الرقابة وتلتزم بالشرعة الاخلاقية والمسؤولية الاجتماعية، دفع باتجاه "التنظيم الذاتي للصحافة"، بمعنى توحّد الصحافيين لفرض حقوقهم، بما يمنع السلطات من تخطيهم.
و"التنظيم الذاتي للصحافة"، هو اتفاق رسمي بين وسائل الاعلام والصحافيين والجمهور للتصرف بمسؤولية. وهو يعني جملة التعليمات الأخلاقية للمجتمع الصحافي المهني. ويعد نظام التنظيم الذاتي مع المبادئ التوجيهية المتصلة به، نظاماً مستقلاً بذاته عن الدولة والتشريعات، ويهدف، على سبيل المثال لا الحصر، إلى ضمان الصدق والدقة في العمل الصحافي، وحقوق المراسلين الصحافيين والأشخاص الذين تجري مقابلتهم.
ولا يشتمل التنظيم الذاتي على مبادئ توجيهية خاصة بالمحتوى السياسي أو المحتوى بشكل عام، اي انه لا يشبه الرقابة بشيء، ولا حتى مثل الرقابة الذاتية. فهو يتعلق بوضع الحد الأدنى من المبادئ التوجيهية التي تختص بالأخلاق، والدقة والقواعد التي تحكم الحقوق الشخصية، مع الحفاظ التام على حريات التحرير في كل ما يتصل بما يقدم من تقارير وما هي الآراء التي تطرح.
وهنا لا بد من التمييز بين تنظيم الاعلام المرئي والمسموع وتنظيم الصحافة المكتوبة والالكترونية. اذ ينطبق التنظيم الذاتي فقط على هذا النوع الاخير من الصحافة المكتوبة والالكترونية. الا ان المرئي والمسموع يبقى خاضعا لهيئات تنظيمية مختلطة اي مؤسسة بقانون ولكن مجلسها واعضاءها مستقلون في عملهم، ويتم تمويلها من الميزانية العمومية وعوائد التراخيص. ويعود الاختلاف في التنظيم الى طبيعة الاعلام المرئي والمسموع وكون مقدار التأثير والضرر هو اكبر على وسائل الاعلام المرئية والمسموعة.
ولا يجب خلط تنظيم المرئي والمسموع مع التنظيم الذاتي الذي يقوم على مجالس الصحافة التي لديها مقومان: تمثيل الصحافيين (من خلال النقابة او الاتحاد) و الجمعية التي تمثل اصحاب العمل او الناشرين.
الواقع أن التجارب العالمية في مجال التنظيم الديمقراطي للصحافة والإعلام تخبرنا عن أشكال مختلفة من التنظيم الذاتي، وفق أشكال متعدّدة ووفق البيئة الوطنية الخاصّة بكل مجتمع، مع الاخذ بعين الاعتبار انها يجب ان تراعي، مقتضيات حرية الصحافيين وضماناتها واحترام حقّ الصحافيين والمؤسسات الإعلامية بشكل عام في التنظيم الذاتي لمهنتهم في المقام الاول، وثانيا، تراعي مقتضيات مسؤولية الصحافيين المجتمعية أي قبولهم الطوعي بمبدأ المساءلة والأخذ بعين الاعتبار حق المواطنين في حماية أنفسهم من الإعلام عندما يتحول إلى سلطة غير ديمقراطية وغير شفافة.
وبدأت محاولات التنظيم الذاتي للصحافة عبر الاعلام البريطاني، الذي استطاع من ممارسة هذا الدور بفعل الاستقلالية التي يحظى بها. ولا تعني الاستقلالية عدم وجود قوانين ديمقراطية تنظم العمل الصحافي، انما عوضاً عن القانون، توصل الصحافيون البريطانيون إلى أسلوب "التنظيم الذاتي" لتحديد المعايير التي تنظم عملهم. هذا بالنسبة للصحافة المطبوعة ومواقع الانترنت الاخبارية. انما يختلف الوضع التنظيمي بالنسبة للاعلام المرئي والمسموع حيث تخضع عمليات البث لجهاز ”اوفكوم“ وهو مكتب اصدار تراخيص البث والاتصالات السلكية واللاسلكية، يرأسه موظف عام معين من الحكومة الا انه مستقل. تتضمن صلاحية هذا الجهاز تطبيق قواعد اخلاقيات البث وسرعة البت بالتراخيص وضمان المنافسة وضوابط المحتوى المقدم. وبذلك يختلف التنظيم بين الصحافة التي تخضع كليا للتنظيم الذاتي والبث المرئي والمسموع الذي يخضع لهيئة مستقلة وانما معينة من السلطة السياسية.
كيف يعمل التنظيم الذاتي
يعمل التنظيم الذاتي على تصحيح أخطاء وسائل الإعلام ويتعامل مع المخاوف والشكاوى المقدمة من الجمهور، لا سيما عندما تتضرر أو تنتهك القواعد الأخلاقية الخاصة بوسائل الاعلام والصحافيين. وهو يضمن أيضا مشاركة وسائل الإعلام في حوار مع الجمهور.
ويمكن تحقيق التنظيم الذاتي دون إقامة هياكل رسمية وصارمة. فمن الضروري فقط لوسائل الإعلام الالتزام بالشفافية والمساءلة والاستجابة الفورية لشكاوى المواطنين وهمومهم.
يمارس التنظيم الذاتي عبر شكلين، داخلي أو خارجي. يتم في داخل وسائل الاعلام عبر تحديد المعايير الخاصة بها، ونظم لرصد العمل الصحافي. وينطوي التنظيم الذاتي الداخلي على التعامل مع الشكاوى، فضلاً عن الجهود المبذولة لتعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة على جميع المستويات في عمل وتغطية المؤسسة الاعلامية.
حيث، تقوم بعض المؤسسات الاعلامية بتعيين محرر للقراء للعمل بشكل مستقل في قسم التحرير للتعامل مع الشكاوى والمخاوف من الجمهور. ويكون هذا المحرر مستقل عن السيطرة المباشرة من قبل رئيس التحرير.
اما التنظيم الذاتي الخارجي في البلدان الديمقراطية، فينطوي على إنشاء سلطة محلية، مثل "مجلس الصحافة" و"لجنة الإعلام" تدعم قواعد الاعلام الأخلاقية عبر أنظمة داخلية وخارجية للتنظيم الذاتي للصحافة.
وتشير المتخصصة في الصحافة الدولية الدكتورة زاهرة حرب في حديث لـ"مجلة مهارات" الى ان الهيئات الرقابية كـ"مجالس الصحافة" يجب ان تكون مستقلة بشكل كامل عن السلطة السياسية ولها سلطة القرار، لكي لا تصبح أداة رقابة واستنساب لقمع حرية التعبير. وهذه الهيئات لا تحاسب الصحافيين كأفراد، بل هي تصدر قراراً بحق المؤسسة الاعلامية في حال خرقت هذه المؤسسة القواعد المهنية المتفق عليها.
كما يجب ان تمتلك المؤسسات الاعلامية معايير مهنية أشبه بالنظام الداخلي للمؤسسة، يتضمن اجراءات محاسبة للصحافي في حال أخلّ بالقواعد المهنية ومدونة السلوك، التي وافق عليها قبل الانضمام الى المؤسسة.
في المقابل، تعتبر مديرة مكتب الشرق الاوسط وشمال افريقيا في منظمة "المادة 19" سلوى غزواني ان التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة يجب ان يكون بقرار حر من المهنيين (مؤسسات اعلامية- صحافيين- مجتمع مدني)، ولا يجب ان يكون بقرار من السلطات كما حدث في المغرب، حيث اصدرت الحكومة والبرلمان المغربي قانون "مجلس الصحافة الوطني المغربي"، وهو نوع من التنظيم القانوني من قبل الحكومة. وبالتالي، لا يشبه فكرة التنظيم الذاتي للصحافة، التي تقوم على مبدأ الحرية.
نموذج المغرب ينطبق عليه التنظيم المختلط وهو يشكل ايضا نموذجا جيدا بحسب منير زعرور، مدير السياسات والبرامج في العالم العربي والشرق الأوسط في الاتحاد الدولي للصحافيين، نظرا الى واقع الصحافة واحتياجاتها والبيئة الاعلامية في منطقتنا العربية. فالتنظيم المختلط بحسب زعرور قد يكون مهما لبناء نموذج اقتصادي مستدام للاعلام، ما يعزز نوعية الصحافة ويساهم في بناء ثقة المواطن بالوسيلة الاعلامية؛ ثقة تشكل القيمة الاساسية للعلامة الاعلامية. ويفسر زعرور ان تجربة التنظيم المختلط في المغرب تتضمن تدخل الحكومة او البرلمان فقط في وضع ميزانية والاعلان عن تأسيس مجلس الصحافة، الا انه يبقى تشكيله تمثيليا للقطاعات المعنية اذ لا تتدخل الحكومة في من يمثل الناشرين او الصحافيين بل يتم انتخابهم بالكامل من اهل المهنة. كما ان من لا يشارك في مجلس الصحافة لا ينتفع من الدعم العمومي الذي يوفره صندوق دعم الصحافة في المغرب. وهنا تبرز اهمية التنظيم المختلط مقارنة مع آلية التنظيم الذاتي التي يتم تمويلها من الناشرين انفسهم، الامر الذي يكاد يكون شبه معدوم في المنطقة العربية، بحسب زعرور.
مواثيق الشرف الاعلامية
كما يمكن ان يخرق الصحافي اخلاقيات المهنة "بسبب الثقافة العامة والتنميط الذي يعتاد عليه الصحافي في التعامل ومعالجة بعض القضايا في المجتمع".
تستند تقريبا جميع المواثيق الاعلامية على مجموعة من المبادئ الأساسية، أبرزها:
- قول الحقيقة: واجب على الصحافي قول الحقيقة. والسعي دائما وراء الدقة. يجب أن يكون التقرير متوازنا وعادلا، لانه جوهر الأنباء. يجب على وسائل الاعلام التحقق من الوقائع التي تنشرها.
- الاستقلال والنزاهة:يجب على الصحافي ان يعمل لخدمة المواطن، وليس لمصالح خاصة. وينبغي أن تكون وسائل الاعلام مستقلة، غير خاضعة لسيطرة جهات السياسية او الاقتصادية.
- التقليل من المخاطر:لا ينبغي ان يخفي الصحافيون الواقع، من اجل تقليل الضرر على الجمهور.
- المساءلة: يجب على الصحافيين ووسائل الاعلام تصحيح الأخطاء، وتقبل النقد المشروع لعملهم، وعلى وسائل الإعلام أن تحترم حق الجمهور في التعبير عن رأيه.
بالرغم من عدم قدرة الصحافيين على توحيد المبادئ المرتبطة بمدونة السلوك الاعلامي، إلا أنهم جميعاً على دراية بهذه المبادئ الأساسية، اما الصعوبة فتكمن في الممارسة العملية لهذه المعايير.
تُكتب مبادئ التنظيم الذاتي عادةً في المدونات الأخلاقية للصحافة، وهي مجموعة من المبادئ التوجيهية، وغالباً ما تكون أكثر دقة من القانون. وتحدّد المدوّنات الأخلاقية حقوق القارئ، والصحافي، والأشخاص الذين تتم مقابلتهم. كما تحدد المبادئ الأساسية التي توجه العمل الصحافي، مثل الصدق والموضوعية. وغالباً ما تكون المدونات الأخلاقية للصحافة ذات صبغة وطنية خاصة، ويعود ذلك إلى الاختلاف في الثقافات والتشريعات.
كما تعتبر مواثيق الشرف الاعلامية، قواعد اخلاقية توجه الصحافيين في عملهم اليومي. وهي عبارة عن التطلعات المهنية من قبل الصحافيين. والمثال الابرز مدونة السلوك للإتحاد الدولي للصحافة.
وبإمكان المؤسسات الإعلامية وضع منظومة للمبادئ التوجيهية الأخلاقية الخاصة بها وحدها. ومن الأمثلة المعروفة في هذا الإطار، دليل هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ودليل الأسوشييتدبرس AP. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون لكل من الوسائل الإعلامية المختلفة مدوناتها الخاصة بها، مثلاً مدونة منفصلة للصحافة وأخرى للتلفزيون أو لوسائل الإعلام على الإنترنت. ومع ذلك، فإن المبادئ الأساسية تبقى نفسها، بغض النظر عن البلد أو الوسط الإعلامي.
وتشير حرب الى ان خرق مدونات السلوك واخلاقيات المهنة الصحافية يأتي من قبل بعض الصحافيين لأسباب عدة، وهي نابعة من "ضعف في الوعي والمعرفة وقلة التدريب لدى الصحافي".
مبادئ توجه العمل الصحافي
ربما لا تكون مواثيق الشرف الاعلامية فعّالة إلا عندما يتم ترجمتها إلى وثيقة عمل تساعد الصحافيين في عملهم اليومي. وقد قدمت معظم وسائل الاعلام معايير ومبادئ توجيهية لمساعدة الصحافيين والمحررين لفهم الممارسات الاعلامية الاخلاقية والمهنية، على سبيل المثال: "بي بي سي"، "قناة الجزيرة"، "اسوشيتد برس"،"رويترز"، والصحف الكبرى مثل: صحيفة "الغارديان"، "صحيفة لوموند"، وصحيفة "نيويورك تايمز".
وبالرغم من ان هذه المبادئ عبارة عن مئات الصفحات، الا انها تساعد الصحافيين لتحقيق التوازن بين الحقوق والمسؤوليات وتجنّب التحيّز، واللغة المتطرفة، والنزاعات المالية للمصلحة، والتقارير غير المتوازنة.
وتتلخص أبرز هذه التوجيهات في: التحقق من الوقائع والمصادر، نقل او نسخ أعمال صحافيين اخرين، تجنب الانحياز في إعداد التقارير واستخدام القوالب النمطية في وسائل الاعلام، تجنب نقل الكلام وتغيير الجمل المنقولة، الإنصاف والتوازن، الكتابة بطريقة حساسة للنزاعات، تجنب التلاعب وتغيير الصور الرقمية، تجنب استخدام لغة مسيئة، لا تمييز عرقي او طائفي، احترام الأقليات، الاطلاع على القوانين المرتبطة بالعمل الصحافي، التأكد من سلامة الصحافيين خلال التغطية للأحداث، حماية المصادر الصحافية، تصحيح الأخطاء فورا، وحماية خصوصية الاشخاص الذين تتناولهم التقارير الاخبارية.
التنظيم الذاتي والقانون
بالإضافة إلى ذلك، يستخدم القانون في كثير من البلدان لمنع إحتكار وسائل الإعلام عبر قانون حماية التعددية، ويستخدم القانون ايضا لبيان الشفافية فيما يتعلق بملكية وسائل الاعلام حيث ان هذه القيود القانونية تمنع وسائل الإعلام المملوكة من رجال اعمال او شركات اقتصادية كبرى من ممارسة نفوذ سياسي لا مبرر له على الدولة والمجتمع.
ومع ذلك، فإن القانون لا يجب ان يكون له مكان في تنظيم عمل الصحافيين أو محتوى وسائل الإعلام، فالممارسات الصحافية ومحتوى وسائل الاعلام يقع على عاتق الصحافيين أنفسهم. حيث، تحدد هيئات التنظيم الذاتي الحدود بين الحقوق المشروعة للصحافة الحرة والحقوق المشروعة لجمهور وسائل الإعلام. ويتم ذلك عبر فحص الشكاوى المرتبطة بخرق مدونة السلوك المهني المتفق عليها. وبالتالي، فإن هيئات التنظيم الذاتي تقدم إرشادات للصحافيين والجمهور بشأن الممارسات المقبولة والمعايير المتوقعة من المؤسسات الاعلامية.
هناك امكانية للجوء الى المحاكم للنظر في الشكاوى المرتبطة بالعمل الصحافي، الا انه يجب في الدول الديمقراطية أن تكون الصحافة خالية من التدخل السياسي والقضائي المفرط. وبالتالي، هناك عدة جوانب مهمة للتنظيم الذاتي للصحافة على حساب استخدام القانون والمحاكم، أبرزها:ان يصبح لدى القراء ثقة أكبر في الصحف الراغبة في تحمل مسؤولية أفعالها. اضافة الى ان تكلفة الشكوى لدى الهيئات الصحافية المستقلة أقل من تكلفة تعيين المحامين لرفع دعوى، كما ان الوقت المستغرق للتعامل مع الشكاوى أقصر، ويمكن أن تتم التغييرات في اللوائح بشكل أسرع، كما يمكن ان تصبح الشكاوى أقل تصادماً مما ستكون عليه عندما تتم الأمور عبر قاعة المحكمة.
لكن بالرغم من ذلك، سيادة القانون أمر مهم لحماية التعددية والحريات الاعلامية، ولحظر الرقابة. ويمكن استخدامه لحماية مصادر الصحافيين، كما يمكن استخدامه من اجل حرية الوصول الى المعلومات.
مجالس الصحافة
تعدّ مراقبة أخلاقيات مهنة الصحافة من الإشكاليات الكبرى التي تعتري العمل الإعلامي، ومنذ سنوات طويلة يدور نقاش عميق يتمحور حول أي آلية هي الكفيلة بتحقيق هذا الغرض، هل يتم الاحتكام مثلاً إلى الميثاق الأخلاقي للمؤسسة الإعلامية وحده؟
هل يتم اعتماد آلية الوسيط المندمجة داخل الوسيلة الإعلامية والتي تسمح بالوساطة بين الصحافيين والجمهور بحيث ترشد الفريق الأول إلى الأخلاقيات وتنصت لشكاوى واقتراحات الفريق الثاني؟ هل تتم المراقبة عبر جمعية للمستهلكين؟ أم يمكن الاستعانة بتجربة بتجربة مجالس الصحافة الموجودة في عدد من الدول؟
يُعتبر الاقتراح الأخير من أكثر الآليات انتشاراً في العالم، ويوجد في عدّة دول متقدّمة كإيطاليا، وسويسرا، وألمانيا، وبريطانيا. حيث يمكن القول إن مجلس الصحافة هو هيئة منتخبة من عدّة فاعلين داخل المجال الإعلامي، لديها سلطة معنوية تجاه الصحافيين، بحيث تضبط الجانب الأخلاقي وتقدم تقارير دورية حول مدى احترام أخلاقيات الصحافة مع مراعاة الحق في التعبير من جهة واستبعاد الأحكام القضائية التي قد ينظر إليها كتضييق على الممارسة الإعلامية من جهة أخرى.
انطلقت تجربة المجالس الصحافية عام 1916 في السويد، التي شهدت ظهور أول مجلس للصحافة. ثم انتشرت مجالس الصحافة في أوروبا وفي باقي دول العالم الديمقراطي. وأنشأت بعض البلدان مجالس صحافة منذ فترة طويلة، مثل ألمانيا، وهولندا، والدول الاسكندنافية.
ويعرّف اليونسكو مجلس الصحافة على أنه هيئة جماعية مستقلّة عن السلطة السياسية، مهمتها اتخاذ القرارات الخاصة بمعالجة شكاوى المواطنين ضد المؤسّسات الإعلامية أو المتصلة بتجاوزات الصحافيين.
ويقوم المجلس بدور هامّ في التوفيق بين الصحافيين والمؤسسات الإعلامية من جهة، والمواطنين من جهة أخرى. ومن مهامه أيضا رصد اتجاهات الرأي العام حول الصحافة والصحافيين في المجتمع ووضع معايير السلوك الأخلاقي للصحافيين، واقتراح تعديلات لتطوير مواثيق أخلاقية.
ويمثل مجلس الصحافة الآلية التنظيمية التي تضمن للجمهور الحق في جودة الأخبار لأنها تشير إلى مسؤولية الصحافيين أمام المجتمع من خلال قبولهم الطوعي بالمساءلة عبر آليات مستقلة ومحايدة.
تتمثل إذن مهمة مجلس الصحافة الأساسية في قبول شكاوى المواطنين والتأكد من أنها تندرج ضمن إطار ميثاق الشرف الصحافي. ويقوم المجلس بدور الوسيط بين الشاكي من جهة أولى والمؤسّسة الإعلامية من جهة ثانية.
ويتخذ المجلس قراراته بالاستناد إلى المبادئ التنظيمية والقانونية والأخلاقية ويأخذ بعين الاعتبار مبدأ الإنصاف. وإضافة إلى معالجة الشكاوى يرصد المجلس كل الانتهاكات التي تقوم بها المؤسّسات الإعلامية والصحافيون للمبادئ الأخلاقية، كما يلتزم عملياً بالدفاع عن الصحافيين وعن حرية الصحافة ويضع المعايير المهنية للممارسة الصحافية.
ويقول وليام غور أحد أعضاء لجنة شكاوى الصحافة البريطانية، وهي من أهم نماذج مجالس الصحافة في العالم، أن المواثيق الأخلاقية لا يمكن أن تمثل الركيزة الوحيدة لإطار صلب لتنظيم الصحافة ذاتياً. فالتطبيق الفعلي لهذه المواثيق الأخلاقية يفترض وجود هيئة قادرة على مراقبة تطبيقها ومساءلة وسائط الإعلام التي لا تحترمها. كما يبرهن وجود مجلس الصحافة على أن تدخل الدولة غير ضروري وأن الصحافيين مسؤولون وخاضعون تلقائيا وبأنفسهم ودونما إكراه إلى المساءلة.
وتعتبر رابطة إتحاد مجالس الصحافة المستقلة في أوروبا أن لمجلس الصحافة دورين أساسيين: إدارة تطبيق ميثاق الشرف ومعالجة شكاوى المواطنين. ومجالس الصحافة من هذا المنظور معنية بالدفاع عن المواطنين والصحافيين في آن واحد. وهي تستند إلى المواثيق الأخلاقية التي تتجاوز القواعد القانونية. كما تعكس مجالس الصحافة المسؤولية المؤسّاسية للأطراف الفاعلين في قطاع الإعلام.
وتشدد اليونسكو على ضرورة خلق مجالس صحافة تلائم النظام البيئي للبلدان، من خلال تفعيل مبدأالتنظيم الذاتي في إطار سياق مؤسساتي وسياسي متخصص. فبالرغم من وجود مجلس الصحافة في العديد من الدول الديمقراطية فإنه لا يوجد نموذج واحد ينظم عملها.
وفي هذا الإطار لا تحدد منظمة اليونسكو التركيبة المثالية لمجلس الصحافة وتعتبر أن ذلك مرتبط بتقاليد المجتمع الديمقراطية وبمدى تطور قطاع الإعلام. وفي هذا الإطار فإن الحل الأمثل حسب اليونسكو، في إنشاء مجلس وطني للصحافة مستقل ويمتلك سلطات فعلية ممثلا لكل الفاعلين تديره هيئة مستقلة ومسؤولة بشكل كامل على التنظيم الإداري والمالي للمجلس.
وتتضمن الادوار الرئيسية لمجلس الصحافة:
- قبول الشكاوى.
- التحقق من أنها تقع ضمن اختصاص مدونة الأخلاق.
- مراجعة الشكاوى بدقة من كل زاوية.
- العمل كوسيط بين المشتكي ووسائل الإعلام.
- اتخاذ قرارات بشأن الشكاوى بناء على قواعد ولوائح مدونات السلوك.
- تحديد وسائل الإعلام لمخالفتها مبادئ الأخلاق.
- ضمان الشفافية والدعاية لجميع القرارات المتخذة.
- اقتراح تعديلات على مدونة الأخلاقيات (إذا كلفت بذلك).
- وضع المعايير المهنية الصحافية.
- الدفاع عن حرية الصحافة.
وبشكل عام فإن مجالس الصحافة تتكون من صحافيين وناشرين وأصحاب المؤسسات الإعلامية ومواطنين إضافة إلى ممثلين عن الجمعيات المهنية. وتستثني بعض المجالس أصحاب المؤسّسات الإعلامية. ويتكوّن المجلس كذلك من لجان متعدّدة ومنها خاصّة اللجنة التي تتلقى شكاوى المواطنين. ويصوغ المجلس القوانين التي تنظم عمله بشكل مستقل تماما عن الحكومة. ويتخذ المجلس قراراته بعد مداولة عامة تجمع الصحافيين والجمهور بالاستناد إلى المرجعيات التشريعية والأخلاقية.
تمتاز مجالس الصحافة مقارنة بآليات التتنظيم الذاتي الاخرى، بأنها هيئات جماعية تتميز بأعلى تمثيل ممكن، وبالتالي مصداقية أوسع،.فضلا عن الالية التفاعلية لهذه المجالس، التي تضمن اكبر مشاركة لوجهات النظر المختلفة.
اما في المنطقة العربية فلا تتمتع الهيئات التنظيمية كمجالس الصحافة بأي نوع من الاستقلالية، بحسب المتخصصة في الصحافة الدولية الدكتورة عبير نجار. وتؤكد نجار في حديث لـ"مهارات ماغازين" ان مجالس الصحافة في الانظمة الديمقراطية تكون منتخبة من الصحافيين والمؤسسات الاعلامية، اما عربيا فهي مجالس معينة من قبل السلطات السياسية، وبالتالي فهي لا تضع مصلحة الجمهور في أولوياتها، بالرغم من حاجة الاعلام العربي الى مجالس صحافة مستقلة من اجل النهوض بواقع الاعلام وتطويره.
ويوافق مدير السياسات والبرامج في العالم العربي والشرق الأوسط في الاتحاد الدولي للصحافيين، على غياب الاستقلالية في التجارب العربية. اذ تأسس مجلس التنظيم الذاتي في تونس ولكن لم يعمل وفي الغرب فالتنظيم مختلط وقد يشكل نموذجا. اما في باقي الدول العربية فلا مجالس صحافة بل هيئات لتنظيم الاعلام تكون غالبا تحت مظلة وزارة الاعلام مثل الاردن ولبنان وفلسطين. وكذلك في مصر فالمجلس الاعلى للصحافة والاعلام كان بمثابة وزارة اعلام، التي عادت لتحتضن هيئة الصحافة وهيئة الاعلام. سيطرة الحكومات واضحة في العالم العربي لاسيما عند تعيين اعضاء هذه الهيئات.
التنظيم الذاتي للصحافة في فرنسا
تأسّست في فرنسا عام 2006 جمعية تعمل على إنشاء "مجلس الصحافة". ففرنسا من الدول الديمقراطية القليلة التي لم يظهر فيها مجلس صحافة وطني (كما هو الحال في بريطانيا والهند وألمانيا) أو مجالس جهوية (كما هو الحال في الولايات المتحدة وبلجيكا وكندا).
لكن حتى الآن، لم تفلح هذه الهيئة التي جمعت عدة أطراف (مهنيون، مؤسسات تكوين في الصحافة...) في إحداث هذا المجلس التي تريد هذه الجمعية أن تجعل منه آلية للوساطة بين الصحافيين والجمهور وفضاء لتنظيم النقاش العام حول الإعلام في المجتمع الفرنسي.
والواقع أن الصحافيين الفرنسيين يخوضون منذ اكثر من قرن على الأقل في إمكانية إنشاء هيئة لتنظيم قطاع الصحافة أي منذ 1898، عندما طرحت فكرة محكمة شرف للصحافة، ورغم هذه المحاولات ظلت فرنسا بلا هيئة تنظيمية للصحافة، إذ ينحصر دور المجلس الأعلى السمعي البصري في التعامل مع المؤسسات السمعية-البصرية.
الوسيط أو الموفِق الإعلامي press ombudsman
شكل آخر من اشكال التنظيم الذاتي، حيث استحدثت هذه الوظيفة في المؤسسات الإعلامية منذ بداية القرن العشرين. والموفق الصحافي وسيط بين الجمهور وهيئة التحرير يتلقى شكاوى وملاحظات الجمهور ويطرحها على الصحافيين ويتابع ردود الصحافيين عليها.
ومن أهم التجارب العالمية في هذا المجالس صحيفة "لوموند" الفرنسية و"الغارديان" البريطانية و"بوليتكان" الدنماركيّة. وللموفقين الصحافيين أو الوسطاء جمعية عالمية تعرف بوظيفتهم وتروج لها. وتجمع هذه المنظمة موفقين من كل دول العالم (أستراليا والبرازيل والهند وتركيا الولايات المتحدة...)، باستثناء الدول العربية مما يؤكد ضعف آليات التنظيم الذاتي والمساءلة والشفافية لدى المؤسسات الإعلامية العربية.
وتعتبر "جمعية الموفقين الإعلاميين" أن من خصوصيات عمل الموفّق أنه يقترح حلولا مناسبة لتوضيح الأخبار وتصحيحيها لصالح الجمهور. ويساهم الموفق في تعزيز جودة المعلومات من جهة دقتها وإنصافها وتوازنها. ويساعد الموفّق المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها لتكون أكثر انفتاحاً على الجمهور كما أنه يعزز إمكانات مساءلتها.
ويساهم الموفق الإعلامي في تدعيم معرفة الصحافيين باهتمامات الجمهور. ومن جهة أخرى فإن الموفق يساهم في حل بعض الشكاوى، التي يمكن أن تتطور إلى قضايا شائكة يصعب حلها ويطول زمن معالجتها قضائيا.
ويقوم الموفق بمراقبة المضامين الإخبارية من جهة مطابقتها لمعايير الدقة والتوازن والإنصاف. كما يحقق في شكاوى الجمهور ويحصل على تفسيرات حول الأخبار لصالح الجمهور. ويدير بعض الموفقين نشرات موجهة للصحافيين. ويكتب البعض الآخر في صحيفته حول القضايا التي تهم القراء بشكل عام ويتناولون إشكالات مرتبطة بالمعالجة الإخبارية.
وأطلق بعض الموفقين الوسطاء منتديات تجمع الصحافيين بالجمهور لتوثيق الصلة بينهما. ويتم اختيار الموفق عادة من كبار الصحافيين سناً ذوي الخبرة المهنية الكبيرة الذين يحضون بالاحترام والتقدير، لأنهم يدافعون عن وجهة نظر القراء من داخل الصحيفة أو المؤسسة الإعلامية.
ومن الموفقين الأكثر شهرة في العالم، الأميركي مايكيل جاتلر الذي عمل صحافياً في جريدة "الواشنطن بوست" لمدة 26 سنة، ثم تحمل مسؤوليات الموفق الإخباري في الصحيفة ذاتها. وانتقل عام 2005 إلى قطاع التلفزيون العمومي.
ويعرّف جاتلر وظيفته بأنه ناقد داخلي للمؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها ومستقل عنها في آن واحد. ويعتبر أن مهمته تتمثل في تبليغ ونقل ملاحظاته وشكاوي الجمهور ليتأكد أن القطاع التلفزيوني يحترم قواعد النزاهة التي فرضها على نفسه.
تم تعديل هذا التقرير في ١٩ آب ٢٠٢٠