"لا نقبل طلاب مسيحيين في المدرسة". هذا الرد جاء على لسان مديرة المدرسة عندما توجهت دومينيكا جوزيف الى المدرسة لتسجيل اختها. عانت جوزيف "الأمرّين" خلال رحلة البحث عن مدرسة، بعد انفصال جنوب السودان كونها مسيحية ومواطنة من جنوب السودان. وتكررت قصة شقيقتها، ما عانته في السابق، حين اضطرت لحضور حصص التربية الاسلامية لانها كانت الطالبة المسيحية الوحيدة، وكانت تذهب لدراسة مادة التربية المسيحية يوم اجازتها الجمعة إلى مركز بعيد من مكان سكنها.
تلك المعاناة، واحدة من مئات القصص التي تحفل بها السودان على مدى 30 عاماً. قبل الثورة، قيدت السلطات حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية المعتقد. هدمت الكنائس والدور ولم تكن هناك عطلة سوى عطلة عيد الميلاد (كريسماس) وكانت تعطى لمواطني الجنوب الذين أعربوا مراراً عن معاناتهم حتى انفصال الجنوب في العام 2011.
لا اساتذة للتربية المسيحية
منذ استقلال السودان، تم تعيين دفعتين فقط من أساتذة التربية المسيحية في عامي 1996 و1997. كان ذلك لغرض سياسي فقط، ولم يعين بعدهم حتى الآن أي استاذ للتربية المسيحية بشكل رسمي، بحسب ما يقول الياس باسيلي، وهو استاذ وموجه تربوي. ويشير باسيلي الى الاثر النفسي للطالب المسيحي حين يطرد من حصة التربية الاسلامية، إذ "يشعر بالدونية"، مشدداً على ان "هذا أسلوب غير سليم في التربية ويؤثر على الأداء الأكاديمي للطالب".
ويضطر الطلاب المسيحيون لدراسة التربية الإسلامية حتى يوفروا على أنفسهم وأسرتهم العبء المادي والمعنوي. ويؤكد باسلي ان التربية المسيحية "لم تحظَ بالاهتمام في العهد السابق.. وحتى الان بعد الثورة، لا يزال العمل تطوعياً".
عدم احترام الاديان
أجبرت جوزيف على دراسة مادة الثقافة الاسلامية في سنواتها الجامعية، رغم أنها مسيحية. لم يوفر لها النظام التعليمي أي استثناء، أو بديل للمادة. سألت مرارا: "لما لا توجد مادة ثقافة مسيحية مثل الثقافة الاسلامية في الجامعات السودانية رغم وجود طلاب مسيحيين؟".
لم تلقَ جوزيف أي إجابة. فالمعاناة مستمرة حتى ما بعد الثورة بالنظر الى انه لم يتوفر مناخاً كاملاً من الحريات الدينية في المدارس الحكومية ولا حتى المدارس الخاصة. ورغم وجود طلاب مسيحيين في المدارس الخاصة العالمية، الا انه لا يوجد اي مقرر للتربية المسيحية. وتشير الى انها، كمتطوعة، كانت تضطر للاستعانة بكتب من مدراس انجيلية كنسية حتى توفر للطلاب المادة الدراسية. وإذ تسأل دومينيكا عن أسباب عدم توفير استاذة مادة تربية مسيحية مثل اساتذة التربية الاسلامية، تقول ان السببب مردّه الى "عدم احترام الأديان والتربية المسيحية".
معاناة متواصلة
تتشعب معاناة الطلاب المسيحيين في السودان، إذ لا يوجد امتحان تجريبي للطلاب الممتحنين للمرحلة الثانوية او امتحان الثانوية العامة. وتقول استاذة مدرسة السلام الإنجيلية ساندرا سمير طلبه ان الطالب المسيحي "يُطرد خارج الفصل في حصة التربية الاسلامية ويعامل بقسوة وكأنه ارتكب جرماً". كما تشير الى ان "طلابنا يعانون من الحصول على نسخة من الامتحان أو حتى طريقة الاسئلة في الامتحان التجريبي" ذلك المعتمد قبل الامتحانات النهائية. وتسأل: "كيف للطالب أن يحرم منه في مادة اساسية؟"
وتشدد طلبه على ضرورة توفير أساتذة ومقررات للطلاب في المدارس العامة والخاصة، وتؤكد أنه لا توجد لجنة امتحانات او حتى أي توجيه للمدارس العامة او الخاصة".
هذه المشكلة، فرضت أعباء مالية على العائلات. وتشير طلبه الى ان "مقدرة الأسر المالية لا تسمح لهم بادخال ابنائهم مدارس كنسية او إنجيلية واحيانا لا يستطيعوا توفير رسوم مواصلات ليصل الطالب إلى مقر مركز تدريس التربية المسيحية الذي يكون في العادة بعيداً من مكان سكنه". وتسأل: "لماذا ترتبط الشهادة الثانوية أو الجامعية بالدين ويعتبر الطالب راسباً في حال رسوبه في مادة التربية الاسلامية او المسيحية؟وتطالب بتحقيق المساواة في هذا الملف التربوي.
متطوعون وجهد كنسيّ
وتعود جذور المشكلة الى وزارة التربية التي لم تسعَ لتعيين أستاذة للتربية المسيحية. ويشير رئيس الطائفة الإنجيلية في الخرطوم رافت سمير الى انه "لا يوجد اساتذة في المدارس لتدريس مادة التربية المسيحية للطلاب"، وهو ما دفع الكنيسة لتوفير مراكز تجمع للطلاب واساتذة بشكل تطوعي حتي يتمكنوا من تدريس التربية المسيحية. ويجمع المتطوعون الكتب ويقومون بطباعتها وتوزيعها على الطلاب.
وفيما يجد المتطوعون حلولاً لجزء من المشكلة، تحول الحالة المادية لبعض الاسر دون ارسال ابنائهم للمراكز الدراسية المستحدثة. ويؤكد سمير ان الوضع في العاصمة الخرطوم "افضل من بعض الولايات البعيدة من المركز"، إذ يعاني المسيحيون من عدم وجود مراكز ومقررات في الولايات النائية وخصوصا جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ولا تقتصر دراسة التربية المسيحية على المسيحيين، إذ يدرسها أيضاً الأطفال الادنين لانها متوفرة واقرب لهم في الفهم والدراسة، وهذه الفئة تُحسب على المسيحيين.
وساهم وجود متطوعين في ايجاد حلول مؤقتة وجزئية في غياب أي دور للحكومة بحل هذه المعضلة. ويقول الياس باسيلي، إن وضع الطالب المسيحي "صعب جدا"، لذلك يسعى المتطوعون لتوفير مراكز. ويشير الى انهم "قاموا بتجربة فتح مركز وكان له أثراً ايجابياً على الطلاب لكن في ظل التضييق الامني والقمع من قبل النظام السابق، تم اغلاق المركز"، ما دفعهم للتحول الى تجربة أخرى تتمثل بإنشاء "شعبة للتربية المسيحية" في محلية أم درمان في العاصمة الخرطوم.
ويشير الياس الى ان "الكنائس تدعم المراكز وتوفر الكتب رغم وجود كتب في وزارة التربية والتعليم للتربية المسيحية"، مطالباً الحكومة "بتوفير الكتب لأن الطلبة المسيحيين هم مواطنون سودانيون ولهم كامل الحقوق".
الكتب المسيحية في المخازن
ويكشف البحث في أداء وزارة التربية، عن ثغرة كبيرة يتحدث عنها مواطنون مسيحيون من غير الكشف عن اسمائهم، لجهة طباعة كتب التربية المسيحية من غير توزيعها. وتقول سيدة مسيحية رفضت الكشف عن اسمها ان كتاب التربية المسيحية "يُطبع مع كل طبعة من الكتاب المدرسي للمدارس، ولكنه يظلّ حبيس الرفوف والمخازن"، نافية علمها بأسباب ذلك. وتضيف: "كنا في السابق نظن انها معادلة سياسية في ظل النظام السابق الذي كان يسيطر على الوزارة بشكل تام، لكن حتى اليوم لا تزال الكتب موجودة في مخازن الوزارة ويسكنها التراب والعنكبوت".
وبقيت هذه الممارسة دون تفسير، رغم أن القانون السوداني يتيح تدريس مادة التربية المسيحية ويكفل حرية الدين. وتؤكد المحامية مريم عيسى ان دستور السودان على مر السنوات "لم يصدر مادة تجرّم أو تحرّم تدريس أو ممارسة المعتقد"، لافتة الى ان "غير المسلمين لهم مواد تخصهم في قانون الأحوال الشخصية السوداني". وتشدد عيسى على أن أي شخص تضرر أو يشعر بالمظلومية "يمكنه ان يلجأ الى القانون فهو مواطن سوداني قبل كل شي".
ويرى الناشط الحقوقي والصحفي عبد القادر محمد علي أنه "لا توجد مادة في القانون السوداني تمنع وتحرم تدريس التربية المسيحية في المدارس او الجامعات"، لافتاً الى ان "ما يحدث هو عرف اجتماعي فقط لا علاقة له بأي قانون".
بصيص أمل
تعتبر وزارة الشؤون الدينية من الوزارات التي لها علاقة وثيقة بقضية الحريات الدينية في السودان ووضع غير المسلمين من مسيحيين وغيرهم، ولكن دورها كان في السابق يقتصر فقط على تقديم التهاني في الأعياد والمناسبات الرسمية. اليوم ازداد العبء عليها في عهد الثورة. وبعد ازالة اسم السودان من الدول المقيدة للحريات الدينية، اختلف الوضع وقد تم تعيين مستشار شؤون دينية مسيحي بمرتبة وزير "لعله يصلح ما فسد في السنوات الثلاثين الماضية".
من ينظر إلى وضع الحريات الدينية في السودان، يجد أن هناك بصيص أمل رغم وجود عقبات وعثرات، ومن بينها ملف تدريس مادة التربية المسيحية في المدارس السودانية التي تبقى قضية تثير الجدل. ورغم عدم وجود قوانين أو تشريعات تمنع تدريسها او ممارسة شعائرها إلا أن الحديث عنها يحبس الأنفاس بانتظار الوصول الى عدالة في الحقوق.