منذ بداية حرب 7 أكتوبر 2023 في غزة، طال نشر المحتوى على المنصات الرقمية والوصول اليه في العالم العربي تغيرات كبيرة في سياسات وخوارزميات هذه الشركات، كشركة ميتا، جوجل، أكس، تيكتوك، لينكد إن وغيرها، أضف اليها القوانين القمعية لحكومات المنطقة، مما ضيق مساحة التعبير في الفضاء الرقمي.
منذ إنطلاق الشركات الرقمية الكبرى ومنصات التواصل الاجتماعي، تم إنشاء آلية عرفت باسم الإشراف على المحتوى (أي Content Moderation). هذه الآلية هي اداة داخلية للمنصات لادارة المحتوى. في النموذج الامريكي تعود للشركات صلاحية ادارة المحتوى وفق سياساتها ومعاييرها الداخلية التي تتأثر حكما بالقوانين والإرشادات السياساتية الاميركية.
اما في أوروبا فقد تدخل المشترع في تنظيم عمل المنصات الرقمية وادارة محتواها عبر "قانون الخدمات الرقمية" DSA الذي أقرّ عام 2022، والذي يعمل على تنظيم المحتوى والمعلومات المنشورة عبر الإنترنت، ويهدف إلى حماية حق التعبير، وخصوصية المستخدمين كما ويشدد على حماية حقوق الإنسان في المشاركة السياسية ويسمح لمراكز ومنظمات المجتمع المدني أن تترافع في محاكم دول الاتحاد الأوروبي، ضد الشركات الرقمية الكبرى في حال وجدت أي انتهاك لحقوق الإنسان، كما ويطالب الشركات بموجب الشفافية.
كيف تعمل آليات الرقابة الخوارزمية؟
تتألف الرقابة الخوارزمية - وهو نموذج ذكاء اصطناعي مدرّب على الإشراف على المحتوى الرقمي - من مصنّف المحتويات (أي Content Classifier)، ومحتسب نسبة تطابق المحتويات الرقمية مع سياسات المنصات (أي Threshold).
وفي هذا السياق تشرح منسقة وحدة السياسات في SMEX ماريان رحمة في حديثٍ لـ"مهارات ماغارين " ان المشكلة في سياسات المنصات في إدارتها للمحتوى أنها ليست شفافة، وليس لدينا أي معرفة حول سبب وضع قائمة الحذف مثلا، أو كيفية إضافة الأسماء والمصطلحات عليها، أو عملية الإدراج أو الشطب منها. لهذا إن هذه القائمة غامضة للغاية، وفيها الكثير من التحيز ضد اللغة العربية والمنطقة العربية والعالم الإسلامي، مما أدى إلى الكثير من المشاكل في عملية الإشراف على المحتوى في العالم العربي".
إن جزء كبير من إزالة المحتوى (Content Demotion)، لا تعتمد فقط على خوارزميات المنصات، ولكن في بعض الحالات، إذا فشلت الخوارزمية في إزالة المحتوى بسبب مطالبة المستخدمين بإعادة النظر في القرار (Content Appeal)، فإن للمشرفين/المراقبين البشريين دورًا كبيرًا في تعديل هذا القرار. لكن هؤلاء المراقبين تدور حولهم الكثير من الإشكاليات، لأنه لا توجد معلومات عن بيئة عملهم والتدريب الذي يتلقونه.
وتوضّح رحمة في هذا الإطار أنه "لكي يتمكن المشرفون البشريون من النظر في المحتوى القادم من بلد معين، يجب عليهم التحدث بلغة البلد الخاصة. ولكن بما أنه لدينا الكثير من البلدان في العالم العربي التي لها لهجاتها الخاصة وتتغير الكلمات بين لهجةٍ وأخرى، فإن الكثير المشرفين في منطقتنا بحسب المعلومات المتوفرة لدينا هم مغاربة ويتحدثون لهجة معينة تختلف كثيرًا عن اللهجات العربية المستخدمة في لبنان والأردن وسوريا وفلسطين… لهذا يتوجّب على ميتا العمل على مشاركة المعلومات حول هؤلاء بشكلٍ شفّاف، خاصة أنه بناءً على معرفتنا المحدودة، المشرفون يعملون في بيئةٍ شديدة التوتر والضغوطات، ولديهم أقل من 10 ثوانٍ للرد في أي طلب".
الحكومات العربية: فرض قوانين تعسّفية
أما في مصر تلجأ الحكومة إلى إدانة مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي عبر قانون جرائم الإنترنت الذي تربطه بشكلٍ وثيق بالتعدي على القيم والمبادئ الأسرية والإخلال بالآداب العامة، بتهم اعتبرتها هيومن رايتس ووتش في تقرير لها "غامضة تتصل بـ"التعدي على القيم والمبادئ الأسرية" واستغلال مقطع فيديو يظهر رقصًا وغناءً بهدف الربح"، وتحجب بشكل ممنهج صفحات وحسابات عدّة على المواقع الإلكترونية وعلى رأسها يوتيوب.
وعمدت السلطة المصرية لحجب العديد من المواقع بين عامي 2017 و2022 لأسباب مختلفة، ومن المواقع التي تم حجبها مؤخرًا هي "مصر 360 "، و"السلطة الرابعة" و "مدى مصر"، الذي تم حجبه بسبب مقال تناول سيناريوهات تهجير الفلسطينيين من غزة الى مصر. وأرجع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في بيان سبب الحجب الى "ممارسة الموقع النشاط الإعلامي دون الحصول على ترخيص بذلك من المجلس"، وأيضًا لما اعتبره "نشر أخبار كاذبة دون التحري من مصادرها والإضرار بمقتضيات الأمن القومي".
الى تأثير سياسات المنصات على المحتوى الرقمي يضاف تأثير حكومات الدول العربية على حرية تداول المعلومات في الفضاء الرقمي، الذي يتجلى عبر حجب منصات رقمية أو خاصيات معيّنة لا ترغب هذه الحكومات بأن يستخدمها مواطنوها.
تعمل الدول العربية على تقليص الحريات في الفضاء الرقمي عبر فرض قوانين فضفاضة تطبقها في الحياة العامة والفضاء الرقمي كقانون تجريم المثلية الذي صوّت عليه البرلمان العراقي في نيسان 2024، والذي يلاحق المواطنين العراقيين في الفضاء الرقمي عبر تجريم المحتويات المروّجة للمثلية بعقوبة سجن تصل إلى 15 عامًا.
وكانت السلطات العراقية قد أطلقت في العام 2023 حملة لضبط "المحتوى الهابط" كما اسمتها بغية الحد من مظاهر التفلت الحاصل، واعتُبرت الحملة عند انطلاقتها أنها انتقائية ولم تستهدف أصحاب المحتوى الهابط بل أصحاب الرأي من نشطاء وصحافيين ومؤثرين.
وقد أصدر البرلمان الاردني قانون الجرائم الإلكترونية عام 2023، والذي وصفته هيومن رايتس ووتش في تقريرٍ لها بأنه "يهدد الحقوق الرقمية، بما فيها حرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومات. كما يحتوي مواد مبهمة يمكن استخدامها لاستهداف المجموعات المهمشة.
وتستخدم المواد 16 و17 من القانون العديد من المصطلحات الفضفاضة ومنها "اغتيال الشخصية"، وإثارة الفتنة"، و"النيل من الوحدة الوطنية" في تسطير أحكام سجنية كبيرة.
في ليبيا أُقر القانون رقم 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية وكانت بعض المواد فيه مقيدة للحرية وتخوّل السلطات استهداف النشطاء بسبب قضايا النشر، فضلا عن الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتنبع كل هذه الصلاحيات من مصطلحات فضفاضة غير معرّفة أومحدّدة بدقة.
في المقابل، أقرت تونس وتحديدًا في سبتمبر/ أيلول عام 2022 المرسوم 54 لتنظيم الواقع الالكتروني واعتبر من أخطر التشريعات التي تضرب حرية التعبير والصحافة وتحديدا في المادة 24 منه والتي تنص على أنه يعاقب بالسجن خمس سنوات وغرامة مالية قدرها خمسون ألف دينار لمن ينشر الأخبار الكاذبة او الإشاعات بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
في سوريا الوضع متشابه فالقانون رقم 20 لعام 2022 المتعلق بالجرائم الالكترونية يعاقب كل مـن أنشـأ أو أدار موقعـًا علـى الشـبكة بقصـد إثـارة أفعـال تهدف أو تدعـو إلـى تغييـر الدستور بالإعتقال المؤقت من سـبع سـنوات إلى خمس عشرة سنة وغرامة مالية قد تصل إلى 15 مليون ليرة سورية.
وعانى العديد من الناشطين في سوريا من التوقيف والمُساءلة على خلفية قضايا نشر الكتروني في الفترة الماضية منهم الصحافي وضاح محي الدين الذي اعتقل في منتصف كانون الثاني 2021 من قبل قسم الجرائم الإلكترونية بفرع الأمن الجنائي بحلب، وتمّ تحويله إلى دمشق، بسبب منشورات على فايسبوك، وخرج بعدها بعفوٍ رئاسي في أيّار/مايو من العام نفسه.