٤ آب، قبيل الساعة السادسة من بعد الظهر، الشرفات والاسطح المواجهة لمرفأ بيروت امتلأت بناس يصورون حريقا مندلعا في المرفأ. انتشرت الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها ما كان عبر البث المباشر Live Streaming. تبع الحريق سلسلة انفجارات. ليس حريقا عاديا. الناس ما زالوا يصورون…حتى دوي الانفجار الاكبر!
حطام، ركام، ضحايا، جرحى، دماء وضياع. بدأت التكهنات. ما هذا؟ الفيديوهات كثيرة على مواقع التواصل. الاعلام اللبناني بدأ كالعادة بالتكهنات المصاحبة للهواء المباشر المفتوح. الكل هنا خبير. منهم من يجزم انها مخازن لحزب الله. منهم من يؤكد ضربة اسرائيلية. منهم من يقول قنبلة نووية.
وحدها ”بلينغكات“ Bellingcat، وهي منصة مؤلفة من باحثين وصحافيين استقصائيين يستخدمون المصادر المفتوحة للتحقق من المعلومات وكشف الحقائق، نشرت في اليوم نفسه في ٤ آب تحقيقا بعنوان ”ما الذي انفجر في بيروت؟“ “What Just Blew Up in Beirut?” استخلصت فيه بعد عرض مسهب للدلائل التي تشير الى المكان الدقيق للانفجار، وتحديد العنبر الذي انفجر، وسبب الانفجار وحجم الحفرة التي خلفها ومصدر اكياس النيترات، الى ان حريق وسلسلة تفجيرات في مرفأ بيروت أدت الى الانفجار الكبير الذي وصلت تداعياته الى قبرص. وخلصت الى ان المستودع الذي يشكل قلب الانفجار يقع على 33.901353, 35.518835 في الخريطة وان سبب الانفجار حسب مصادر المعلومات المتعددة التي تم تحليلها تشير الى شحنة ٢٧٠٠ طن من نترات الامونيوم التي كانت مخزنة في المرفأ منذ ٢٠١٣.
العديد من شهود العيان أكدوا انهم سمعوا اصوات طيران لحظات قبل الانفجار. أحد الفيديوهات التي تم تناقلها على مواقع التواصل لتثبيت فرضية الهجوم، تضمنت مشهدا يظهر فيه بوضوح صاروخ سبب الانفجار.
نيك واترز ، عنصر سابق في الجيش البريطاني ومحلل يستخدم المصادر المفتوحة، تابع انفجار بيروت وعمل على التحقق من المعلومات المتوافرة عبر موقع بلينغكات. واترز حدثنا في مقابلة أجراها معه فريق ”مهارات ماغازين" عن السرعة التي مكنته من التحقق من المعلومات ونشر تفاصيل الانفجار في اليوم نفسه. ”كل المعلومات التي ضمنتها التحقيق الاول حول الانفجار هي من مصادر مفتوحة لاسيما من موقع تويتر. عندما يحصل حدث ما يحمل الناس هواتفهم ويبدأون بالتصوير. انه سلوك عالمي عابر للثقافات والحضارات والمجموعات اذ يريد الجميع ان يكونوا شهودا. ما نقوم به بشكل جيد جدا هو ايجاد هذه الفيديوهات. وان الجزء الاكبر من التحقق من المعلومات هو وضع الاحداث في سياقها الزمني والمكاني لكي نتمكن من الاحاطة بشكل معمق بما جرى خلال هذه الاحداث. ولان باستطاعتنا ان نقوم بهذا التحقق بسرعة كبيرة نستطيع ان ننشر اسرع من المؤسسات الاعلامية التقليدية. هذا مع الاشارة الى اننا قمنا بتحديث التحقيق حول مسببات الانفجار في اليوم التالي.“
اثر متابعته، شاهد نيك واترز هذه الفيديوهات. كان واضحا بالنسبة اليه عندما شاهد الصاروخ في احدى الفيديوهات انه مزيف. ”كنت قد شاهدت الفيديوهات قبل توليفها (مونتاج) ولم ألحظ اي صاروخ. كما شاهدت فيديوهات كثيرة اخرى من زوايا مختلفة ولم يظهر في اي منها اي اثر لصاروخ في المنطقة نفسها.“ ويكمل ان "انتشار عدد كبير من الفيديوهات طبعا ساعد في مرحلة التحقق والتدقيق وما كان علي عندها الا ان اشاهد الفيديو اطارا باطار لاتأكد انه مزيف“.
تفاصيل التحقق نشرها موقع بلينغكات في ٧ آب في تحقيق بعنوان ”انفجار بيروت: هل هو طائر؟ هل هي طائرة. هل هو فيديو مزيف لصاروخ؟“ هذا التحقيق دحض فيه واترز عدة فرضيات لاسيما ان الفيديوهات الاولية التي انتشرت لم يظهر فيها اي اثر لصاروخ، كذلك لم تتوفر اي معلومة من اي مصدر مفتوح تثبت وجود طيران على علو منخفض قبل الانفجار. كما رجح ان سبب سماع اصوات طيران قبل الانفجار قد يكون بسبب تطور الحريق وسلسلة الانفجارات التي أدت الى الانفجار الكبير.
اما لدى سؤالنا حول معرفة الشخص الاول الذي نشر الفيديو المزيف فاجاب واترز ”لم نتمكن من ذلك. كان هناك حساب على يوتيوب وعنوان ايميل، بدا انه يمكن ربطه باحدى هذه الفيديوهات، ولكن آثرنا عدم تضييع الكثير من الوقت لنحاول تحديد مزور الفيديو. من خبرتنا نعتقد ان الكشف عن المزور في بعض الاحيان يعطيه دعاية قد يكون يسعى وراءها. مثلا احد الفيديوهات كان يحتوي على ايميل مطبوع فيه، لان من صنع هذا الفيديو كان يعلم انه سيصبح متداولا بكثرة. ونحن اردنا التخفيف من هذا الاثر لذا عملنا على اخفاء عنوات الايميل.“
انتهى تحقيق واترز بسلسلة اسئلة ما زلنا نحتاج للاجابة عنها رغم دحض فرضية الصاروخ من الفيديوهات المتوافرو ورغم تفسير سبب سماع صوت الطيران. واهمها ”ما الذي أشعل الحريق الاول؟“
يؤكد واترز في هذا الاطار انه لم ير اية ادلة تشير الى هجوم ولكن يصعب التأكد من المسار الدقيق للاحداث دون تحقيق كامل مستقل. وهناك معلومات يتم تداولها عن ان الحريق الاول الذي شب كان بسبب عمليات تلحيم كان يقوم بها بعض العمال الذين هم موقوفون اليوم على ما يبدو.
القاسم المشترك بحسب خبرة واترز هو الذهنية الاستقصائية المشتركة والمبنية على كيفية استخلاص اكبر قدر ممكن من المعلومات من معلومة اخرى مثل صورة او فيديو. غالبا ما يبدأ الناس بالعمل في مجال التحقق من المعلومات كتسلية وليس كجزء من عملهم. يمكن استخلاص ذلك من حساب @quiztime على تويتر وفيه بوستات يومية لتحديات تجمع هواة التحقق لحلها.
لدى نيك واترز اهتمام خاص بالنزاعات في سوريا واليمن وقد عمل على تحقيقات كثيرة عن المنطقة. يرى واترز ان التحقق من المعلومات ما زال ناقصا في كل انحاء العالم. هنالك بعض المبادرات في المنطقة العربية مثل VeSyria و Syrian Archive فضلا عن بعض المبادرات الفردية لمراسلين مثل بشار ديب وسهيل الغازي.
اهتمام واترز بالتحقق من المعلومات بدأ في العام ٢٠١٥، ٢٠١٦ عندما كان يتابع دراسته العليا في جامعة كينغس كولدج في لندن. في احدى الليالي التقى بـ كرستيان تريبرت في المكتبة يشاهد فيديو لضربة جوية مرة تلو الاخرى ثم ينتقل الى تفحص خريطة. ”في ذلك الوقت كنت قد تركت الجيش وفكرت أنا أعرف الخرائط، أعرف المتفجرات، أتساءل اذا امكنني المساعدة. وهكذا بدأت“، يخبرنا واترز.
الا ان الخلفية العسكرية غير مطلوبة للصحافيين والباحثين الذين يرغبون بالتحقق من المعلومات، بحسب واترز، الا ان هذه الخلفية تساعد في بعض الظروف لاسيما في ما يتعلق بالتعرف على الذخائر ومفاعيلها. من يقومون بهذا النوع من التحقق عبر المصادر المفتوحة قد يكونوا من خلفيات صحافية، نشطاء، طلاب، شرطة…
الا انه يقر بنقص في اليمن على هذا الصعيد. يعتقد واترز ان هذا النقص يعود لعامل اللغة بشكل كبير، اذ ان العديد من منصات المصادر المفتوحة لا تنشر ولا تقوم بتدريبات باللغة العربية، وهو شيء أود لو يتغير. ”احد اسباب اني اتعلم اللغة العربية هو لتخطي هذه التحديات رغم معرفتي بان ذلك سيتطلب وقتا.“
في بلنغكات يعود لكل محقق ان يختار تحقيقه. اذا ما وجد احد اعضاء الفريق ان هناك حدثا يستوجب التحقق يعمل عليه. واحيانا يمكننا ان نقوم بعدة تحقيقات حول موضوع معين مثل الضربات الجوية في اليمن.
هنالك احداث مأساوية كثيرة في منطقتنا العربية والتحقق منها يبقى معقدا نظرا لقلة خبرة الصحافيين العرب في التحقق عبر المصادر المفتوحة ولبطء عملية التحقق اذا ما قامت بها المؤسسات الاعلامية التقليدية. مع ذلك فان بلينغكات قلما تقوم بالتعاون مع مؤسسات اعلامية او صحافيين للتحقق من المعلومات في القضايا المعقدة، انما تقوم بالتحقق والنشر باسرع وقت ممكن. ”لقد قمنا ببعض التعاون في تحقيقات كبيرة مثل مقتل محمد غلزار، ولكن هذا التعاون يكون في حالات معينة ويأخذ العمل اسابيع لا بل اشهر. في هذه القضية اعتمدنا على مصادر مفتوحة وتغطية ميدانية وهذا المزيج كان ناجحا ولكن طبعا يأخذ وقتا أكثر للوصول الى نتيجة.