لا شك في أن دخول الحراك في الجزائر عامه الثاني هو دليل على صمود الشارع أمام استمرار النظام في عجزه عن بلورة الحلول للانتقال إلى واقع جديد لن يكون في صالحه.
لقد رحل الرأس وبقي النظام في أشكال وعناوين مختلفة. وبسبب غياب النية الصادقة في التغيير وعدم الرغبة في التخلي عن النهج السياسي والأمنيالذي يحكم الجزائر منذ زمن، اعتمد النظام سياسة المناورة واللعب على حبال التسوية، محاولا امتصاص نقمة الشارع عبر إجراءات ديمقراطية صورية، سرعان ما أحبطها الحراك الذي أظهر خبرة وتمرساً في كشف سياسات السلطة الملتوية.
لقد انطلقت الاحتجاجات رفضا لترشّح عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة. وعلى رغم إجراء انتخابات في 12 كانون أول (ديسمبر) الماضي جاءت برئيس جديد للبلاد، هو عبد المجيد تبون، إلا أنها لم تنه احتقان الشارع الذي ما زال يتظاهر أسبوعيا مطالبا بتغيير جذري للنظام. ويبدو تطوّر الأوضاع في الجزائر مستقبلا، رهنا بمدى مواصلة الحراك رفضه السلطة القائمة وعلى رأسها الرئيس الجديد الذي يعتبره المتظاهرون جزءا من السلطة نفسها التي يطالبون بإسقاطها.
مكاسب الثورة
أحدثت الشهور الـ12 الماضية من الحراك المستمر تغييراتٍ كبيرة في بنيته، وأكسبته خبرة كبيرة في التظاهر والتعبئة، وفي الوقت نفسه، أسقطت جدار الخوف الذي ظلّ النظام يحكم به البلاد بيد من حديد طوال العقود الماضية. وتعلّم المتظاهرون الشباب الكثير من ثورات "الربيع العربي"، وراكموا على مدى الشهور الماضية تجربة من فن وثقافة التظاهر السلمي والحضاري الذي يعرف كيف يكسب مطالبه بالنقاط، وليس بالضربات القاضية.
فالثورة الجزائرية الثانية حققت مكاسب عديدة، أولها استعادة الشعب زمام المبادرة، بعد عقود من مصادرة سيادته، وتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير، وخاصة حرية الصحافة التي لعبت أدوارا مزدوجة وملتبسة طيلة فترة التظاهرات.
وفيما أسهم الحراك في منح الصحافة في البلاد جرأة وهوامش حرية أوسع لم تكن تتمتع بها من قبل، إلا أن هذه الحرية بقيت محدودة لأن المنظومة الإعلامية هي جزء من المنظومة السياسية، ولن تتحرر كاملة إلا بتحرر المنظومة السياسية.
مفاجأة الثورة
وفي تفسيره لجذور الحراك الذي تعيشه الجزائر، يقول الباحث نور الدين بكيس، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الجزائر، إن الحراك الشعبي لم يظهر فجأة وإنما أفرزه الوضع الاجتماعي والسياسي المحتقن في البلاد طوال سنواتحكم عبد العزيز بوتفليقة الذي استمر زهاء عقدين.
ففي لحظة تاريخية وجد النظام - بكل أجهزته وأدواته وأحزابه - نفسه معزولا، في مواجهة الشارع الغاضب، من دون وساطات قادرة على التحاور مع المتظاهرين. فالأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت معارضة للنظام، فقدت مصداقيتها، والشخصيات الأكثر تأثيرا في الساحة السياسية والنقابية تم طردها من الشارع تحت هتاف المحتجين المطالبين بتنحي الجميع من دون استثناء.
فاجأت موجة الاحتجاج التي هزّت المشهد الاجتماعي والسياسي، الرأي العام الجزائري والدولي، وأخذت على حين غرّة النظام الجزائري الذي استكان إلى هدوء الشارع طيلة العقدين الماضيين. لذلك كان أثر المفاجأة قويا على السلطة نفسها التي لم تكن تقدّر حجم الغضب والمعارضة بين شرائح المجتمع الجزائري، اذ كانت اعتقدت أنها نجحت في تخديره.
في البداية يصعب الحديث عمن أطلق الشرارة الأولى لهذا الحراك. لكن تأريخ بدايته كان لحظة إعلان السلطة ترشيح الرئيس السابق لولاية خامسة، رغم عجزه الجسدي الواضح إثر إصابته بجلطة دماغية عام 2013. فقد كان لذلك الإعلان، المستفز، وقع الصدمة على الشعب الذي جاءت ردة فعله قوية وعفوية عبر الخروج في تظاهرات حاشدة لم تشهدها الجزائر منذ استقلالها عام 1962، للمطالبة بوقف "المهزلة".
"انتهى عهد الاذعان"
ويضيف حموشان: أن "الأمر يتعلق بانتفاضة شعبية عبأت القوى الجماهيرية في أوساط الطبقات الوسطى والمهمشة في المناطق الحضرية والريفية التي تأثرت بالسياسات النيوليبرالية لعدة عقود، وعانت من اقتصاد ريعي فاسد في ظلّ عولمة مفترسة تسهّل نهب الموارد المالية والطبيعية للبلاد".
ويرى حموشان أن من يقود الحركة الاحتجاجية هم الشباب، لذلك تبدو غير منظمة وبلا قادة أو هياكل تنظيمية، فالكل يلعب دوره للحفاظ على دينامية الحراك، من خلال ما يسمى بـ "التنظيم الأفقي" بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي.
بالنسبة للباحث عبد النور بن عنتر، الأستاذ المحاضر في جامعة "باريس 8" في فرنسا، "فإن الخطأ السياسي الذي ارتكبته السلطة هو عدم الانتباه إلى أن عهد الإذعان قد انتهى"، لافتًا إلى أن التغييرات السياسية تأتي فجأة والمجتمعات تتطور من الداخل وتنمّي مناعتها وأدوات مقاومتها. لذلك فإن السلطة التي اعتادت إتباع سياسة "الانحناء الإيجابي" للمطالب الشعبية ثم العودة إلى سابق عهدها، وجدت نفسها أمام مقاومة من نوع جديد لم يسبق لها التعامل معه، وفي مواجهة مباشرة ومفتوحة مع شارع من دون قيادة ومتفلّت من كل الوصايات والوساطات.
ويعتقد الباحث والمناضل الجزائري حمزة حموشان، أن فشل الوساطات التقليدية يعود إلى "إفلاس سياسات الأحزاب المتعددة إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكوّنات المجتمع المدني"، ما أدى بالناس إلى "تنظيم أنفسهم بشكل مختلف في السنوات الأخيرة، والتعبير عن المعارضة والسخط بشكل متزايد من خلال التظاهرات القطاعية أو ظهور الحركات الاجتماعية الأفقية".
دور وسائل التواصل الاجتماعي
لعبت الثورة الرقمية دورا مؤثرا في تحرير الجزائريين من قبضة السلطة الاعلامية التي كانت تحتكر كل وسائل الإعلام الجماهيرية، وتضع قواعد قديمة تتيح لها التحكم في تدفّق المعلومات وتوجيهها واستغلالها بما يتناسب مع مصالحها وسياساتها الخاصة.
إن "تأثير كرة الثلج" في وسائل التواصل الاجتماعي ساهم في نشر دعوات الحراك الاولى بشكل واسع وتنظيم انطلاقته يوم 22 شباط (فبراير) 2019. فنجاح المسيرة الأولى، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وتقاسم صورها وفيديوهاتها، ضاعف من تعبئة الجماهير، من مختلف شرائح المجتمع الجزائري، التي لبت دعوات النزول إلى الشوارع في أكثر من مدينة للتظاهر والاحتجاج.
وساعدت المظاهر السلمية والأشكال الإبداعية للتعبير عن الاحتجاج خلال المسيرة المليونية الاولى وسط الجزائر العاصمة، في نشر الوعي حول أهمية الحفاظ على سلمية الحراك. كما نبّهت المتظاهرين إلى ضرورة اليقظة للحرص على أن يظل احتجاجهم سلميا إذا أرادوا الحفاظ على استمراره وقوة دفعه. وعندما انتبهت السلطة في الجزائر إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة المتظاهرين، وفي الحفاظ على دينامية الحراك واستمراريته، لجأت السلطات إلى تعطيل الدخول إلى شبكة الإنترنت، في محاولة للسيطرة على انتشار المعلومات حول الاحتجاجات، والحد من تفاعل المواطنين معها، لكن الوقت كان قد فات.
من الملاعب إلى الشارع
قبل أن تخرج التظاهرات إلى الشارع، كانت شعاراتها مألوفة لدى أغلب الجزائريين. فصداها تردّد للمرة الاولى داخل مدرّجات الملاعب. إذ كان أنصار "الاتحاد الرياضي لمدينة الجزائر"، فريق العاصمة الجزائرية، المعروفين باسم "أولاد البهجة"، أول من هتف ضد "العصابة"، التعبير الذي يطلق على الحاكمين الفاسدين في الجزائر. وتعمّمت أغاني "كازا ديل المراديا" (قصر المرادية)، في إشارة إلى القصر الرئاسي في الجزائر، وأغنية "أولتيما فيربا" (الكلمات الأخيرة)، المؤيدة لاحتجاجات الشعب الجزائري، وهما من إبداع التراس "أولاد البهجة"، بالإضافة إلى أغنية "ليبيرتي" (الحرية) التي أبدعها مغني "أولاد البهجة" المعروف باسم "سولكينغ" قبل أن يهاجر سرا إلى فرنسا. وقد تجاوز عدد مشاهدي هذه الاغنية على "يوتيوب" 187 مليون مشاهدة، بالإضافة إلى أغنية "الجزائر حبي" للفنان الجزائري "لالجيرينو". وقد أصبحت هذه الاغاني بمثابة نشيد وطني لـ"الحراك"، وتراتيل يرددها المحتجون في شوارع المدن الجزائرية كل يوم جمعة.
ثورة "الألتراس"
قبل انطلاق شرارة الحراك، أثبتت مجموعات الألتراس أنها تتمتع بوعي سياسي وجرأة في التعبير وأسهمت إيجابا في تحريك الشارع الجزائري ضد نظام الرئيس المتنحّي عبد العزيز بوتفليقة. ويبرز ذلك في الشعارات والأغاني التي وصل أثرها إلى شريحة كبيرة من المجتمع، حتى من غير متتبعي كرة القدم.
ويعتبر "أولاد البهجة"، ألتراس نادي اتحاد مدينة الجزائر العاصمة، من أشهر الألتراس في الجزائر وأكثرهم تأثيرا. ففي عام 2018، أصدرت الفرقة أغنية "La Casa del Mouradia" التي أصبحت اليوم نشيدا يردده الجزائريون في التظاهرات داخل البلاد وخارجها. وكان عنوان الأغنية مستوحى من المسلسل الإسباني الشهير "La Casa de Papel" في إشارة إلى "استيلاء" بوتفليقة وحاشيته على قصر الرئاسة الواقع في منطقة المرادية بالجزائر العاصمة، أما كلماتها فتتحدث عن تدهور الأوضاع في البلاد مع استمرار ولايات عهد بوتفليقة وكيف كان "يحضره النظام لولاية خامسة".
وفي 17 شباط (فبراير) 2019، أي قبل بضعة أيام فقط من انطلاق تظاهرات 22 شباط (فبراير) الرافضة للولاية الخامسة، أطلق "أولاد البهجة" أغنية سياسية تنادي بالحرية وتدعو لإسقاط النظام "الفاسد". وجاءت الأغنية تحت عنوان "ULTIMA VERBA"، وهي عبارة لاتينية تشير إلى "الكلمات الأخيرة" التي ينطق بها الإنسان وهو على فراش الموت. من كلمات الأغنية "هاذو خلاو الزوالي (الفقير) يعشق الموت"، "تسقط الدولة" و"قاع ما تبكيش يا بلادي شدة وتفوت" (لا تبكي يا بلادي فهذه محنة وسوف تمر).
ابداعات في الحراك
إذا كانت بداية التعبير عن الغضب الشعبي في الجزائر بدأت في الملاعب، فإن بداية التفاعل معها انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي. وكما يقول محمد مبتول، استاذ علم الاجتماع في جامعة وهران، فإن من أطلق شرارة الحراك هم "الأشخاص الذين لا صوت لهم". وأول ما لفت الانتباه إلى حالة الغضب والاحتقان داخل الشارع الجزائري، هو التفاعل الكبير مع فيديو الفنان الجزائري أنس تينا "راني زعفان" الذي وضع فيه الإصبع على جراح الجزائريين الاجتماعية والمعيشية، محملاً الحكومة ورجال المال والأعمال مسؤولية الوضع.
لذلك، ليس غريبا أن يتخذ الحراك منذ انطلاقته أشكالا تعبيرية إبداعية جديدة حررت طاقة الإبداع غير المحدود "للعبقرية الشعبية"، ومكّنت بسطاء الناس من التعبير عن إرادتهم السياسية المُكتَشَفة من جديد، وهو ما انعكس في حس السخرية والفكاهة والفرح الذي تفجّر في الشارع بعد عقود من القمع الاجتماعي والسياسي.
وأصبحت شعار الحراك الرئيسي تلخّص مطالبه وترسم أهدافه. يقول الباحث حمزة حموشان، إن شعار "الشعب يريد يتنحاو قاع" (الشعب يريد أن يتنحّوا جميعًا، أو بشكل أدقّ، الشعب يريد إقصاءهم جميعًا)، ليست سوى نسخة أخرى من "الشعب يريد إسقاط النظام"، الشعار الذي رفع خلال الانتفاضات العربية في 2010-2011.
أما استاذ علم الاجتماع الجزائري نور الدين بكيس، فيقول في تفسيره لتنوّع الأدوات التعبيرية خلال الحراك الشعبي، أن ذلك كان تطورا طبيعيا للمشاركة الشعبية الكثيفة في الحراك، وتعبيرا عن "تبدّد الخوف لدى الجزائريين، فارتقى الحراك من مجرد السير وإطلاق الصيحات إلى ابتكار أدوات تعبيرية تضمّنت إبداعا راقيا حاول الجزائريون من خلاله تقديم صورة إيجابية عنهم وعن بلدهم".
وفي كل تظاهرة كان يخرج المحتجون رافعين شعارات بلمسة إبداعية جديدة، عبارة عن شعارات سياسية مباشرة، أو شعارات كتبت بلغة ساخرة، أو على شكل رسوم كاريكاتير، أو مسرحيات تعرض في الشارع في الهواء الطلق. وكان واضحا أن بروز الشعارات وتنوع أشكال التعبير عنها، يكون مرتبطا بتطور الأحداث، أو ردا على قرارات السلطة. وضمن هذه الشعارات اشتهرت عبارة "يتنحاو قاع" (ليرحلوا جميعا) التي وحدت موقف الجزائريين
يقول الباحث الجزائري حمزة حموشان، إن الحراك دفع بالكتابة السياسية إلى الواجهة، وحرر طاقة الإبداع عند الجمهور التي انعكست في الشعارات والأغاني واللوحات التعبيرية مبرزة ثقافة شعبية جزائرية أصيلة. ويشير الباحث الذي عمل على توثيق العديد من الشعارات التي كان يرفعها المتظاهرون، إلى أن الطاقة الإيجابية للشارع أثّرت بشكل إيجابي على الحركة الثقافية، وساهمت في تحريك الركود وتفعيل النقاش، وتفجير الملكات الإبداعية. فقد أبتدع الشارع الجزائري عدة أشكال تعبيرية للاحتجاج ورفع مطالبه، تنوّعت ما بين الشعارات، ورسوم الكاريكاتير، والرقص والغناء والمسرح ومنصات الخطابة الشعبية.
ويضيف بكيس أن إبداعات الجزائريين وجهت "رسائل الى المجتمعات العربية والغربية مفادها أن الشعب الجزائري الذي طالما اتّهم بالعنف والراديكالية في التسعينيات بسبب أزمة الإرهاب، ليس كذلك في الوقت الراهن، فهو اليوم أمام فرصة جديدة لإعادة إنتاج مجتمع جديد".
استخدام لغة الصمت
لم يخلُ الحراك الشعبي الجزائري حتى من لغة الصمت التي تم توظيفها بذكاء من طرف فنانين شباب للتعبير عن مطالب الحراك وإيصال صوته في صمت ولكن بقوة الإبداع وقدرته على التعبير من دون اللجوء إلى رفع شعارات أو إلى كثرة الكلام. فعندما تأخرت السلطة في الاستجابة لمطالب المحتجين الذين كانوا ينزلون إلى الشوارع كل يومي ثلاثاء وجمعة، تفتّقت موهبة طلبة جامعيين عن إبداع فيلم قصير صامت من عشر دقائق، بعنوان معبّر: "إذا لم تٌرد سماع صوتي.. فلتصغ لصمتي"، وهو عبارة عن مشاهد صامتة يلخص الوضع في الجزائر. يبدأ بمشهد ثلاثة أشخاص يحركون حبالا غير مرئية مرتبط بثلاثة رجال آخرين ممسكين بثلاثة حبال حمراء تمسك بدورها بكرسي فارغ، في إشارة إلى فراغ كرسي الرئاسة في عهد بوتفليقة المريض، وأمام الكرسي يقف الشعب الصامت خلف حاجز كبير من الخوف. تتحرك الكاميرا ببطء وفي صمت تتبع تشابك الخيوط الحمراء التي تتفرع من تحت الكرسي الفارغ، تتواصل مثل لعبة متاهات، وفي هذه الرحلة الصامتة يظهر الفيديو مختلف أدوات الفساد الذي ينخر جميع قطاعات البلاد الحيوية. ويتواصل استعراض مظاهر الفساد حتى يبدأ المواطنون "الخائفون" يتحركون ببطء نحو الكرسي الفارغ، في إشارة رمزية إلى "الحراك الشعبي"، لينتهي المشهد الصامت دائما بمواطنين استبدلوا الكرسي بصندوق اقتراع زجاجي، وعليه كتبت عبارة "الشعب مصدر السلطة"، يحمونه بحبل أخضر في إشارة إلى الإصلاح.
الحراك في الإعلام
اختلفت تغطية وسائل الإعلام الجزائرية للحراك الشعبي حسب اتجاهات هذه الوسائل ومصالح مالكيها. ويمكن التمييز في هذه التغطية ما بين وسائل الإعلام الحكومية، التي تمثل الاتجاه الرسمي، ووسائل الإعلام الخاصة المملوكة من رجال أعمال أو مدعومة من جهات داخل السلطة. وفي هذا المشهد الإعلامي المعقّد والمتنوّع، وليس المتعدّد، يمكن التمييز بين تغطيات وسائل الإعلام المرئي والمسموع، والتغطيات التي قامت بها الصحف المكتوبة والمواقع الإلكترونية، بل وحتى بين وسائل الإعلام الناطقة بالعربية والفرنسية. فالتغطية الصحافية اختلفت من وسيلة إعلام إلى أخرى، وأهمّ ما كان يتحكّم فيها هو مدى استقلالية المنبر الإعلامي.
وتبقى أهمّ ميزة طبعت تغطية وسائل الإعلام الجزائري للحراك الشعبي هي الارٍتباك الذي طبع التغطية الإعلامية في لحظات الحراك الاولى، وانعكس هذا الارتباك في كيفية نقل وسائل الإعلام للمطالبة الواضحة الداعية إلى رحيل النظام ورموزه. لكن مع توالي التظاهر، تحررّ الإعلام وأصبح مواكبا بقوة للاحتجاجات ينقل كل تفاصيلها. وأهم ما ميّز هذه الفترة هي الانتقائية التي كانت تطبع تغطية وسائل الإعلام الرسمية بل وحتى الخاصة التي كانت تتجنّب الإشارة إلى بعض شعارات الحراك التي تنتقد المؤسسة العسكرية، أو تقوم بتحوير بعض الشعارات بما يرضي السلطة القائمة أو على الأقل يجنّبها غضبها. وطيلة مسيرة الحراك، تميّزت مواقف وسائل الإعلام الجزائرية في تعاطيها مع الحراك بالتذبذب في التموقع منه والمواقف تجاهه ما بين المعارضة والمهاجمة والمساندة والحياد السلبي.
ففي بداية الحراك تمت مقاطعته من طرف وسائل الإعلام الحكومية منها والخاصة، وتجاهلته بشكل تام مؤسسة التلفزيون الجزائري ووكالة الأنباء الجزائرية الرسمية. أما الصحف فتعاملت معه، في بدايته، بحذر كبير. فيما كانت بعض المواقع الإلكترونية سبّاقة إلى لفت الانتباه إلى أهمية الحراك وقامت بتغطية مهنية لمسيراته قبل أن يتعرّض بعضها للمضايقة من طرف السلطة والحجب داخل الجزائر.
خلفيات التغطية الإعلامية
فقد تجنّبت وسائل الإعلام الجزائرية بمختلف مشاربها أيّ إشارة سلبية إلى مؤسسة الجيش وقائدها الفعلي السابق قايد صالح الذي كثّف من التصريحات المتضاربة طيلة فترة الحراك. ومع ذلك كانت غالبية وسائل الإعلام تبرز تصريحاته من دون نقد أو مناقشة. وحتى عندما بدأ الحراك يرفع صوره وينتقد تصريحاته وقراراته التي كانت تعارض مطالب المحتجين، عمدت وسائل الإعلام الجزائرية الرسمية والخاصة إلى حجب الشعارات والهتافات التي تهاجم المؤسسة العسكرية وقائدها، ولم تتناول تغطية تلك المواقف المنتقدة لمن كان يوصف برجل الجزائر القوي.
ويعزو الصحافيون الجزائريون هذا الخوف من انتقاد المؤسسة العسكرية إلى كونها ظلت دائما تشكّل "خطّا أحمر" يصعب على وسائل الإعلام الاقتراب منه. وطيلة فترة الحراك استعملت مؤسسة الجيش ذراعها الاستخباراتية الممثلة بمديرية الإعلام في وزارة الدفاع، لاختراق الجسم الصحافي وبسط رقابتها على وسائل الإعلام وفرض توجهاتها الرسمية عليها.
لتحليل تغطية وسائل الاعلام الجزائرية للحراك، يجب الانطلاق من خلفية وسيلة الإعلام نفسها التي غالبا ما تحدد زاوية التغطية حسب تطور الأحداث وتغيّر موازين القوى. وهذه الخلفيات تختلف من وسيلة إعلام إلى أخرى حسب مالكها أو الجهة المموّلة، لا سيما القنوات التلفزيونية الخاصة المملوكة من رجال أعمال غالبيتهم كانت قريبة من النظام، أو مدعومة من جهات محسوبة على السلطة العميقة داخل النظام.
وعندما ننظر بصفة عامة إلى كيفية تعاطي وسائل الإعلام الجزائرية بمختلف أنواعها مع الحراك، يمكن التمييز بين كيفية تغطيتها لآداء الفاعلين الرسميين خلال فترة الحراك، حيث تختلف هذه التغطية عندما يتعلق الأمر مثلا بالحديث عن دور المؤسسة العسكرية ورموزها، وخاصة نائب وزير الدفاع الراحل الفريق قايد صالح، الذي فرض نفسه منذ بداية الحراك ناطقا رسميا باسم المؤسسة العسكرية حتى وفاته يوم 23 كانون الأول (ديسمبر) 2019.
خمس مراحل في التغطية
المرحلة الثانية من التغطية الإعلامية يمكن تسميتها بمرحلة انكسار حاجز الخوف، خاصة بعد أن التحقت شرائح واسعة من المجتمع الجزائري بصفوف الحراك من طلبة ومحامين وقضاة، ما أحرج الإعلاميين العاملين في وسائل الإعلام الحكومية ونزلوا إلى الشارع للاحتجاج ضد تغطية وسائل إعلامهم بعد ما ارتفعت نبرة الانتقاد لهم من طرف المحتجين، فاضطرت وسائل الإعلام الحكومية في النهاية إلى تغطية مسيراته. مرحلة "الاستفاقة" هذه، وإن جاءت متأخرة، كانت نتيجة ظهور "حراك" مواز وهذه المرة داخل قاعات التحرير، عندما خرج صحافيو وسائل الإعلام الحكومية للتظاهر رافضين التعليمات. وساهمت هذه "الانتفاضة" الإعلامية في تحرير باقي الجسم الصحافي الجزائري اذ تحررت عناوين الصحف الكبيرة، وباتت تغطياتها أكثر جرأة في طرح مطالب الحراك والدفاع عنها.
لكن وسائل الإعلام الرسمية، على رغم أنها نزلت إلى الشارع وأصبحت تنقل صور المسيرات وتستضيف معارضين للنظام، إلا أنها كانت تحاول إظهار ما تعتبره إيجابيا في تلك الاحتجاجات، وركزت على إبراز سلمية التظاهرات والسلوك الحضاري للمتظاهرين، وروحهم الوطنية الرافضة لكل أنواع التدخل الخارجي.
ويمكن التمييز بين خمس مراحل في تغطية الحراك، ما بين مرحلة بدايته، حيث كانت وسائل الإعلام الخاصة هي التي تغطّي فعالياته، بينما هاجمته وسائل الإعلام العمومية المملوكة من الدولة قبل أن تكفّ عن تناول أخباره وتتجاهله.
المرحلة الاولى، في بداية الحراك أصيبت وسائل الإعلام الحكومية بالصدمة من قوّته وقوّة شعاراته، وفشلت غالبيتها في التماهي مع الحدث، وطبع الخوف والتوجس تغطياتها لمسيراته. وانعكس ذلك على وسائل الإعلام العمومية التي قاطعت أولى مسيراته، في حين تعرّضت وسائل إعلام خاصة لضغوطات من طرف السلطة التي أمرتها بتجاهل تغطية الاحتجاجات.
وأمام اتساع الضغط وتصاعد وتيرة الحراك اضطرت السلطة إلى فتح وسائل الإعلام العمومية للحراك لاحتوائه بعد أن فشلت في تجاهله ومعاداته، خاصة وأن زخمه كان يزداد مع مرور الأيام وأصداءه تتسع بفضل الإعلام البديل الذي تمكّن من تعبئة الشارع بطريقة عجزت السلطة عن كسرها أو التحكم فيها.
وفي الوقت نفسه قامت بتحوير المطالب السياسية للمحتجين عندما لخّصت شعاراتهم في الإصلاح السياسي، من دون الحديث عن مضمونه، أو عن مطالب ذات طبيعة اجتماعية، كما تغاضت عن المطالب السياسية الكبيرة التي رفعها المتظاهرون منذ اليوم الأول والمتمثلة في التغيير الجذري للنظام ورحيل كل رموزه.
هذه المرحلة التي تميزت بنوع من "الانفتاح" كانت جزءا من حالة الارتباك العام في المشهد السياسي في الجزائر، عندما عوّلت السلطة على عامل الوقت لعودة الأمور إلى طبيعتها، وعندما نفذ صبرها قامت بالتدخل المباشر عبر وسائل الإعلام لفرض خط تحرير منسجم مع توجهها السياسي في تعاطيها مع الحراك.
أما المرحلة الرابعة، فيمكن وصفها بـ "مرحلة الردّة"، تميّزت بعودة وسائل الإعلام الحكومية ومعها بعض وسائل الإعلام الخاصة إلى مقاطعة الحراك أو الهجوم عليه وسط ارتفاع حدّة انتقاد المحتجين للدور السلبي لهذه الوسائل. وتزامنت هذه المرحلة مع منافسات كأس أفريقيا لكرة القدم التي فازت بها الجزائر. فقد استغلت السلطة هذه المناسبة الرياضية لتوجيه وسائل إعلامها الرسمية والمقربة منها لخفض درجة اهتمامها بتغطية مسيرات الحراك، والتركيز على آداء الفريق الجزائري في المنافسات الكروية الإفريقية.
المرحلة الثالثة، هي مرحلة الحياد السلبي، وهي التي تلت الإعلان عن تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الخبر الذي تناولته وسائل الإعلام الرسمية بكثير من الحيادية والموضوعية، وهي التي كان خطابها الإعلامي يساند ترشحه لولاية خامسة. وحاولت وسائل الإعلام ذاتها أن تظهر قرار التنحي أو الإقالة على أنها استجابة لمطالب الشارع وبالتالي غيّرت تغطيتها للحراك بطريقة يغلب عليها طابع الحياد السلبي.
هذا التغيير لم يكن طوعيا وإنما جاء نتيجة الضغوطات التي مارستها السلطة على وسائل الإعلام، عندما لجأت إلى أساليبها القديمة في معاقبة تلك التي رفضت العودة إلى "بيت طاعتها" من خلال قطع البث المباشر عن القنوات الفضائية الخاصة، وسياسة الخنق المالي بواسطة التحكم في الإعلانات الرسمية.
المرحلة الخامسة التي تطبعها اللامبالاة، وهي المرحلة التي تعيشها اليوم العلاقة ما بين الحراك ووسائل الإعلام بمختلف مشاربها. وأهم ما ميّز هذه المرحلة تراجع التغطية الإعلامية للحراك في وسائل الإعلام الجزائرية، مع تراجع زخم الحراك نفسه في الشارع، اذ عادت التغطية الإعلامية إلى مرحلة الروتين، وهو ما يفسّر تقليص حيّز التفاعل الإعلامي مع الحراك.
أما بالنسبة لوسائل الإعلام الحكومية فإن الحراك انتهى بتنحّي الرئيس السابق، وما تلاه من محاكمات وملاحقات قضائية ضد مسؤولين سابقين وشخصيات رفيعة ورجال أعمال. فقد كان للتطورات السياسية التي شهدها الجزائر عقب انتخابات الرئيس عبد المجيد تبون، ودعوته إلى إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، دورها في تراجع وهج الحراك داخل وسائل الإعلام رغم استمرار خروج المسيرات الاحتجاجية كل يوم جمعة.
وبالنسبة لوسائل الإعلام الخاصة التي دأبت على التموقع داخل الساحة السياسية، فإن الفترة الحالية بالنسبة لغالبيتها هي فترة البحث عن تموضع جديد وفق توجهات السلطة الجديدة في الجزائر. فالإعلام في الجزائر بكل أصنافه العام والخاص لم يتخلص من تبعيته للدولة التي تتحكم في مصدري التمويل والإعلانات، حيث تحتكرالدولة في الجزائر توزيع الإعلانات التجارية على وسائل الإعلان من خلال "وكالة الإشهار" (وكالة الاعلان) التي تعتبر بمثابة "شرطي" الدولة للضغط على وسائل الإعلام لإخضاعها لتوجهاتها الرسمية.
يمكن اختصار المرحلة الخامسة بأنها مرحلة العودة التدريجية لرقابة السلطة على وسائل الإعلام الحكومية التي تظل خاضعة للسلطة بسبب القيود القانونية والمالية للدولة، وهو ما جعل تغطية وسائل الإعلام اليوم للحراك تذكّر بطريقة تعاطيها معها في بدايته والتي تميّزت بالارتباك في التغطية والانتقاء في شعارات المتظاهرين.
وفيما عادت وسائل الإعلام الحكومية إلى آداء وظيفتها التقليدية كأداة من أدوات الدعاية الحكومية وتوجيه الرأي العام، لم تعد وسائل الإعلام الخاصة، خاصة التلفزيونية منها، تقوم بتغطية المسيرات الشعبية في بث مباشر كما كانت تفعل في بدايات الحراك الشعبي كل يوم جمعة. وفي المقابل بدأ المتظاهرون يعبّرون في مسيراتهم، عن سخطهم من غياب التغطية الإعلامية، من خلال ترديد هتافات "أين هي الصحافة؟" أو رفع لافتات تصف بعض القنوات التلفزيونية بأنها خانت الشعب.
الاعلام بين التبعية والتحرر
هذا التمييز بين المراحل الخمس في تغطية وسائل الإعلام الجزائرية للحراك الشعبي، يبقى تصنيفا أفقيا، وحسب مراحل زمنية متتالية. لكن على المستوى العمودي يمكن أن نميّز بين خطين كبيرين واضحين. هما خط التبعية وخط الاستقلالية والتحرر. وإذا كان من فضل للحراك الشعبي على وسائل الإعلام، فإنه حاول تحريرها من قبضة السلطة ورقابتها، ولو لفترة زمنية محدودة راهن فيها الصحافيون الجزائريون على الحراك لكسر كل القيود التي كانت تكبّلهم. ولكن يبدو اليوم أن هامش الحرية الذي فتح للصحافة الجزائرية خلال فترة الحراك، كان مجرد فترة استراحة للتنفيس بما أن نافذة الصحافة سرعان ما أغلقت من جديد.
ومازالت السلطة في الجزائر تتعامل مع وسائل الإعلام الحكومية والخاصة كـ"أدوات لتوجيه الرأي العام"، سواء من خلال القيود القانونية أو من خلال التحكّم في وسائل التمويل. وحتى بالنسبة لوسائل الإعلام الخاصة، وخصوصا القنوات التلفزيونية منها، فإن السلطة تتحكّم فيها من خلال وسائل التمويل، ومن خلال وضعها القانوني الهش، على اعتبار أن غالبية هذه القنوات هي مجرد مكاتب لشركات أسسها أصحابها في دول أجنبية، وبالتالي فانالوضع القانوني للقنوات الخاصة الخمس الموجودة اليوم في الجزائر يٌعتبر هشا مادام مصيرها في يد السلطة التي يمكن أن تقدم على إغلاقها، وبطرق قانونية، في اي لحظة شاءت.
وعلى رغم أن الجزائر صادقت عام 2014 على "قانون السمعي البصري"، إلا أن الحصول على رخصة للبث مازال أمرا مستحيلاً، لأن السلطة لا تريد الترخيص لأية قناة خاصة حتى تبقى محتكرة للمجال المرئي والمسموع.
أما وضع الصحافة التقليدية، أي الصحافة المكتوبة، فهو أسوأ بكثير بسبب انسداد الأفق أمامها، وتدني عائداتها من المبيعات والإعلانات، ما أدى بالعديد منها إلى إغلاق أبوابها وتسريح صحافييها، نتيجة الصعوبات المادية وعمليات "الخنق الناعم" الذي تقوم به السلطة لإسكات الأصوات التي تنتقدها.
أي مستقبل لحرية الاعلام ؟
ويتذكر غالبية الصحافيين الجزائريين ما يعرف بـ "العشرية السوداء"، التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وذهب ضحيتها أكثر من 100 شخص ممن عملوا في مجال الصحافة خلال تلك الحقبة الصعبة من تاريخ البلاد. فالسلطة التي قمعت الجزائريين في تلك السنوات مازالت قائمة، والقمع الذي دفع أولئك الصحافيون حياتهم ثمنا له قبل عقدين ما يزال مستمرًا حتى اليوم ولو بأشكال أخرى. أما الاعتقالات والمحاكمات ضد بعض رموز فسادعهد بوتفليقة السابق، فتلك لم تكن سوى محاولة لتهدئة الشارع الثائر الذي كان يطالب بمحاسبة كل الذين دفعوا بالبلاد إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة. ولا شيء يضمن أن تعود السلطة نفسها إلى أساليبها القديمة عندما تتأكد من أن أبواب الحراك قد أغلقت بإحكام شديد.
وتسود اليوم حالة من التوجس والخوف تجاه مستقبل غامض يطبعه وضع سياسي واقتصادي صعب، جعل حرية الصحافة والتعبير في الجزائر تعيش أسوأ مراحلها. كما تحولت ممارسة الرقابة الذاتية إلى تمرين يومي لدى غالبية الصحافيين المستقلين، خوفا من السجن أو الملاحقات القضائية.
وثمة خوف كبير في وسط الصحافيين والناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين أعربوا عن دعمهم للاحتجاجات، أو طالبوا بحرية الصحافة واستقلال القضاء، من أن تنتقم منهم السلطة بعد استتباب الأمر، وتثبيت سيطرتها على مقاليد الأمور.