بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس الماضي، والكشف عن وجود 2750 طن من "نيترات الأمونيوم" مخزنة بشكل غير سليم في العنبر رقم 12، برز تساؤل لدى الجمهور حول غياب دور الاعلام في الكشف والتحذير من وجود هذه المواد الخطرة في المرفأ، لا سيما الدور الذي كان يجب أن تلعبه الصحافة الاستقصائية.
تبدو الصحافة الاستقصائية اليوم في لبنان غائبة عن الممارسة الاعلامية، وذلك لغياب المحاسبة عن المسؤولين بشكل عام. وأصبح هذا النوع من الصحافة موضة تنتشر بين الصحافيين رغم بعض الانجازات، التي كشفت حقائق مهمة لصالح الرأي العام.
وباتت التحقيقات الاستقصائية التي تهتم بالمواضيع المثيرة للجدل والفضائح، تتخطى التحقيقات التي تركز على كشف الفساد، بطريقة تخدم المصلحة العامة. كما بقيت الصحافة الاستقصائية ذات طابع شخصي ومغامرات فردية.
وهنا تفرّق استاذة الاعلام في الجامعة اللبنانية وفاء أبو شقرا بين الصحافي الاستقصائي واي صحافي آخر. تقول: "يبحث الصحافي الاستقصائي عن خدمة المصلحة العامة ورسم صورة موضوعية حول القضية التي يتم التحقّق منها، ويُخضع مصادره الى التدقيق والتحقيق قبل اعتمادها، ويفترض أن لا يبحث عن الاخبار المثيرة والسبق الصحافي (السكوب)".
ربما يدل تراجع لبنان في مؤشر مدركات الفساد للعام 2019 الى المرتبة 137 عالمياً من أصل 180 دولة في العالم، الى حاجة المجتمع الماسة الى صحافة استقصائية قوية تساعد الدولة في محاربة هذه الظاهرة المتزايدة. لكن من الواضح ان التركيبة الطائفية والسياسية للبلاد تشكل عائقاً امام الصحافيين وتمنعهم من الغوص في ملفات تحسب على فريق معين.
تقييم المشهد الاستقصائي
في إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس الفائت، غابت التحقيقات الصحافية المعمقة، وبدأت الوسائل الاعلامية بتداول المعلومات، التي يعرفها الجميع. في حين، تركزت التغطية الاعلامية على صور الخراب والدمار. أما المعلومات الحصرية والجديدة التي كانت تطرح في البرامج الحوارية حول إنفجار المرفأ، فكانت تهدف الى تصفية الحسابات في أحيان كثيرة بين المؤسسات الاعلامية وبعض المسؤولين، بحسب ما تقول أبو شقرا.
وفي السياق يوضح عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور جورج صدقة لـ"مهارات ماغازين" ان مفهوم الصحافة الاستقصائية بمفهومها الغربي "لم تصل اليه الصحافة اللبنانية، بالرغم من محاولات مهمة للوحدة الاستقصائية في قناة الجديد".
ويشير صدقة الى ان مؤشرات نجاح الصحافة الاستقصائية لا يمكن قياسها بمعزل عن النظام السياسي والاعلامي السائد في لبنان. ذلك ان "جو الحرية الاعلامية السائد بعيداً عن القوانين مهم لنجاح الصحافة الاستقصائية، وهذا الجو مفقود في لبنان".
بالرغم من بعض الانجازات التي قام بها الصحافيون الإستقصائيون اللبنانيون، وساهمت في كشف حقائق مهمة لصالح الرأي العام، بقيت الصحافة الاستقصائية اللبنانية مقيدة بنزعات شخصية ومغامرات فردية، بحسب ما أكدت استاذة الاعلام في الجامعة اللبنانية وفاء أبو شقرا لـ"مهارات ماغازين".
وتشير أبو شقرا الى ان العمل الاستقصائي "مفقود بالمفهوم المتعارف عليه". ويرجع ذلك الى "غياب الصحافة المتخصصة في لبنان التي تعتبر الصحافة الاستقصائية جزءا منها". وتقول: "لدينا بعض التحقيقات الجرئية على التلفزيون، في مقابل غياب تام للصحافة الاستقصائية في الصحافة المكتوبة".
تفسر أبو شقرا رؤية بعض الجمهور لذلك الجهد بالقول ان العمل الاستقصائي يتجه الى ان يكون أشبه بـ "المشكلة الشخصية" بين المسؤول والصحافي. فالكثير من المسؤولين الذين تشير التقارير الاستقصائية الى فسادهم او تقصيرهم، "يسعون الى تحويل هذه التحقيقات الى محاولة استهداف شخصية لهم من أطراف سياسية، وبالتالي هم يحاولون تمييع الحقيقة وأخذ النقاش الى أماكن أخرى".
تحديات الصحافة الاستقصائية
ويشير قبيسي أيضاً الى تحديات الوصول الى المعلومات، حيث يعاني الصحافي المستقل، الذي لا يرتبط بجهة سياسية او علاقات نفعية من امكانية الوصول الى معلومات تساعد في الكشف والتحقيق في قضايا معينة.
ويتفق الصحافي الاستقصائي فراس حاطوم مع قبيسي في مسألة العقبات التي تحول دون الوصول الى المعلومات. يوضح حاطوم في حديث لـ"مهارات ماغازين" ان حق الوصول الى المعلومات يخضع لمزاجية المسؤول، كما يلعب الانتماء السياسي والحزبي والمؤسسة الاعلامية دوراً في تسهيل الحصول على المعلومات. وبالتالي، "يصبح حق الوصول الى المعلومات استنسابياً".
إضافة الى ذلك، يذهب ردّ فعل الجمهور على ما يقدمه الصحافي الاستقصائي، بإتجاه الانتماء السياسي والطائفي، وينظر البعض الى ما يقدمه الصحافي من مادة على انه "استهداف سياسي للمسؤول"، وتنسحب النظرة على من يقوم بتأييد الصحافي ويتابعه من الجمهور في بعض الاحيان "لأن هذه التقارير تستهدف سياسيين أو مسؤولين من الخصوم".
كثيرة هي التحديات التي تواجه الصحافة الاستقصائية بشكل عام، كالتحدي المالي وعامل الوقت المستغرق لإعداد التقارير الاستقصائية. لكن، في لبنان تظهر تحديات أخرى تميّز البيئة اللبنانية عن غيرها، ابرزها، بحسب الدكتور صدقة، غياب القضاء. ويعتبر صدقة ان نجاح الصحافة الاستقصائية لا يمكن أن يتحقق، الا في وجود قضاء حر وفاعل قادر على المحاسبة والمساءلة في كل ما تكشفه الصحافة الاستقصائية من فساد وسوء إدارة.
ولا يختلف سائر المتخصصين على ان التحديات كثيرة، ويقول الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي لـ"مهارات ماغزين" ان التحدي المرتبط بغياب وعي الجمهور بمفهوم الصحافة الاستقصائية ودورها في خدمة المصلحة العامة، هو الأبرز، بالرغم من تزايد هذا الوعي بشكل أكبر بعد ثورة 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019.
إضافة الى ذلك، هناك التحدي المالي، الذي يعتبر عقبة كبيرة أمام الصحافة الاستقصائية، لا سيما ان الصحافة الاستقصائية لا تساعد على جذب المعلنين، بل بالعكس هي "تبعد" المعلنين بحسب قبيسي.
تقصير الاعلام في كشف الأمونيوم؟
يعترف ناشر موقع "ليبانون ديبايت" ميشال قنبور بأن الصحافة بشكل عام والاستقصائية أخفقت في الكشف والتحذير من وجود شحنة "نيترات الأمونيوم" في المرفأ، والتنبيه الى خطورتها على سكان بيروت.
يشير قنبور في حديث لـ"مهارات ماغازين" الى "اننا كصحافيين أخفقنا ولا يمكن ان نقوم ببطولات"، مضيفاً: "الانتقاد موجّه لي قبل غيري".
يوضح قنبور انه كذلك لا يمكن تحميل الصحافة الاستقصائية أكثر مما تحتمل، لا سيما ان بيئة العمل الاستقصائي لا تساعد هذا النوع من الصحافة على النجاح، في ظل عدم تطبيق قانون حق الوصول الى المعلومات، والنقص الكبير في الإمكانيات المادية والبشرية والتقنية، وتراجع هامش الحرية الاعلامية، وغياب المحاسبة.
في السياق، يرى حاطوم انه من المستغرب عدم اضاءة الصحافة الاستقصائية اللبنانية على شحنة "نيترات الأمونيوم" المخزّنة في المرفأ قبل الانفجار، وهو ما يُعدّ نقطة سلبية للصحافة بشكل عام. "لكن يجب ان لا ننسى ان الصحافي الاستقصائي يغرق بكمية قضايا فساد وهدر أكبر من قدرته، لا سيما ان عدد الصحافيين الاستقصائيين في لبنان يعدون على أصابع اليد".
ويرى حاطوم انه لو تم إثارة قضية "نيترات الأمونيوم" قبل الانفجار، "كان سيتم تمييعه، وستتهم الصحافة الاستقصائية بالتهويل والمبالغة كما حدث في ملفات اخرى، حيث طرح رياض قبيسي قضية الفساد وسوء الإدارة في المرفأ مرات عديدة، لكن القضية إفتقدت الى تفاعل الجمهور".