بعد تغيير المشهد السياسي في تونس منذ سيطرة الرئيس قيس سعيّد على مقاليد السلطة، بدأت تظهر سياسات التضييق على حرية الصحافيين التونسيين عبر مراسيم وتشريعات وممارسات وملاحقات قضائية كان آخرها رفع دعوى ضدّ نقيب الصحافة في تونس محمد ياسين الجلاصي، بسبب تغطيته لاحتجاج سلمي تمّ تنظيمه في 18 تموز 2022 أمام وزارة الداخلية ضد الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد.
فكيف أثّر تغيير المشهد السياسي في تونس على دور وحريّة نقابة الصحافة التونسية؟ وعلى حرية الصحافة بشكل عام في تونس؟
مراسيم وتشريعات تفرض التحدي
وفي إطار المراسيم والتشريعات التي تقمع دور الصحافة في تونس، أصدرت السلطة المرسوم 54 والذي يهدف لمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، الأمر الذي اعتبرته الأحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية خطرا على حريّة التعبير لما يعطيه من حريّة للسلطة بقمع أي منشور أو تعبير عن الرأي يهدّد مصالحها.
وفي تفاصيل استعمال هذا المرسوم، تقول أميرة محمد: "المرسوم 54 أحدثه رئيس الجمهورية بمفرده لتكميم الأفواه، فمثلا نجد أنّ وزيرة العدل تقدّم دعاوى قضائية ضدّ صحافيين لأنهم ينتقدون أداء رئيسة الحكومة، وأيضا وزير الشؤون الدينية يتقدّم بشكوى ضد صحافية لأنها انتقدت عمله في مقال صحفي، وبالتالي هذا المرسوم يستهدف الصحافيين والناشطين وغيرهم من من لديهم رأي مختلف".
وتضيف أميرة أنّه "وعلى الرغم من أن المرسوم 54 في الأصل ينظّم منظومة المعلومات والاتصالات، لكن رئاسة الجمهورية عمدت منذ البداية أن تضع فيه عبارات فضفاضة تسمح للقاضي بتأويلها كما يريد
بعد انغلاق الأفق السياسي والتضييق على الحريات في تونس، ظهرت العديد من الإشكاليات والتحديات من الناحية القانونية التي تقف أمام حريّة الصحافة. حيث تؤكد نائبة نقيب الصحافيين التونسيين أميرة محمد في حديث لـ "مهارات ماغازين" إنّ "الحكومة قد أصدرت منشوراً يُعرف بالمنشور عدد 19، وهو منشور يمنع كل المسؤولين من تقديم معلومات للصحافيين مهما كان الموضوع بسيط أو معقّد إلا بعد الحصول على طلب أو ترخيص من الوزير المسؤول شخصه، وبالتالي عطّل ذلك بشكل كبير عمل الصحافيين".
وتضيف محمد أنّ التشريعات والسياسات ما بعد الإنقلاب أغلقت كل الأبواب أمام الحصول على المعلومة إذ لا يمكن للصحافي اليوم أن يحصل بسهولة على معلومة رسمية خاصة من رئاسة الجمهورية أو الحكومة كما وأن مؤسسات الدولة كرئاسة الجمهورية والحكومة ليس لديهم لا ناطق رسمي ولا مكلّف بالإعلام.
كما وتشير إلى أنّ رئاسة الجمهورية ترفض حتى قبول طلبات النفاذ/ الوصول إلى المعلومة والتي يكفلها القانون التونسي (قانون حق النفاذ الى المعلومة). بالإضافة الى عمليات التحريض الممنهجة على الصحافة والصحافيين والتي تُسجّل إبتداءً من خطابات رئيس الجمهورية الى كل المعاملات الأخرى.
في هذا الإطار، تقول الصحافية التونسية حنان زبيس في حديث لـ"مهارات ماغازين" إنّ المرسوم 54 ضيّق على الصحافيين بشكل كبير، فقد أعطى هذا المرسوم الحق للسلطة بأن تقمع أي رأي أو منشور تراه يمسّ بالسلطة، أي أن كل من يصدح بشيء معارض للسلطة يتمّ استدعاءه بحجة هذا المرسوم
وأضافت أنّه وحتى في حال ثبت أن المعلومة المنشورة هي صحيحة، هذا لا يمنع السلطة من معاقبة صاحب المنشور.
وتشير أميرة محمد إلى أنّ ما يحصل اليوم هو اعتماد المحاكم العسكرية لتتبّع الصحافيين على خلفيّة آرائهم، بالإضافة إلى اعتماد قانون مكافحة الإرهاب وغيرها من المراسيم كالمرسوم 54 الذي يسعى لضرب حرية التعبير رغم أن مجاله هو المعلومات والإتصالات.
وبالتالي، يعتبر هذا المرسوم سلاحا لكمّ الأفواه وتستخدمه السلطة لبثّ الرعب في نفوس الشعب التونسي وداخل قطاع الصحافة بشكل خاص ، إضافة إلى أنّ هذا المرسوم يؤثر على حماية الصحافيين ويضاف إلى عمل النقابة بضرورة توفير الحماية لمواجهة هذا المرسوم الجائر بحسب أميرة محمد.
نتيجة التشريعات: استدعاءات بالجملة
نتيجة للسياسات والتشريعات ما بعد الانقلاب، شهدت تونس جملة من سياسات القمع والاستدعاءات لصحافيين كان أبرزها سجن مدير إذاعة "موزاييك" وهي الإذاعة الأكثر استماعا في تونس لخطه المعارض في السلطة.
إضافة إلى ذلك، تمّ استدعاء نقيب الصحافة التونسية محمد ياسين الجلاصي من النيابة للتحقيق معه بتهمة الاعتداء على أفراد من الشرطة وتعطيل حركة المرور خلال وقفة احتجاجية في العاصمة.
وفي حديث لموقع الجزيرة، قال الجلاصي إنّ القضية رفعها 8 عناصر أمنيين ضده بسبب احتجاج سلمي تم تنظيمه في 18 تموز 2022 أمام وزارة الداخلية ضد الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد. وقد تم اتهام الجلاصي بالإساءة لموظف عمومي وتعطيل حركة السير والتحريض على العصيان ضد السلطة، مع العلم أنّه نزل بصفته الصحافية قصد تغطية ذلك الحدث لفائدة موقع "نواة".
واعتبر الجلاصي أنّ "هذا الاستدعاء هو استهداف واضح ضد نقابة الصحافيين، في وقت تصعد فيه أطراف موالية للرئيس استهدافها للنقابة، تماشيا مع الخطاب التحريضي الرسمي ضد الإعلام، خاصة وأن صوت نقابة الصحافيين أصبح مزعجا للسلطة بحكم دفاعها عن الحريات".
في هذا الإطار، أشارت حنان زبيس إلى أنّ نقابة الصحافة كانت قد نظّمت يوم غضب للاحتجاج ضد الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، لتقوم السلطة وبطريقة ترهيبيّة بالردّ عبر استدعاء نقيب الصحافة الجلاصي.
وتقول أميرة محمد إنّ العديد من الحالات التي سجّلت من سجن صحافيين وملاحقتهم كانت بالاستناد إلى قانون مكافحة الإرهاب والمرسوم 19 والمرسوم 54، في وقت لا يتم الالتزام بقانون الصحافة أي المرسوم 115 الذي ينظم حرية العمل الصحفي في تونس.
وقد اعتبرت، أن ملاحقة الصحافيين وسجنهم على خلفية آرائهم وعلى خلفية عملهم أو على خلفية مقالات أو ما يقومون به من نقد خطير جداً، لأن الهدف منه إسكات الأصوات الحرة ومحاولة التعتيم ومحاولة زرع الخوف في المؤسسات الإعلامية لإيقاف كل مسار نقدي أو مخالف لتوجهات السلطة الحالية.
دور النقابة في ظلّ الاستهداف
وفي إطار التحرّكات المطلبية، تشير أميرة محمد إلى أنّ النقابة اليوم تقوم بتحرّكات لسحب المرسوم 54 والتحذير من خطورته عبر العديد من الندوات، بالإضافة إلى اتجاه النقابة نحو القضاء لإجبار السلطة على سحب المرسوم وعدم اعتماده في قضايا النشر لأنّه يؤسس لديكتاتورية كم الأفواه.
وفي إطار الملاحقات التي تطال الصحافيين، تتحرّك النقابة عند وجود أي تهديد لحرية الصحافة بما في ذلك القوانين وملاحقات للصحافيين، وفي حالات الضغوطات السياسية، تسعى النقابة إلى فضح هذه الضغوطات للتشهير بمرتكبيها أمام الرأي العام بالإضافة إلى تقديمها الدعم القانوني اللازم للمتضررين من الصحافيين.
ومع كل هذه التحرّكات، تبقى حماية الصحافيين أمر نسبي، إذ تقول أميرة محمد إنّ "النقابة تقوم بالتحرّك بكل قوّتها، أحياناً تتمكن من تحقيق بعض الإنجازات وأحياناً أخرى تخفق نظراً للوضع السياسي و نظراً لعدم تفاعل السلطة السياسية مع النقابة ومع الصحافيين، فلا يتم حتى التقيّد بما يتم الاتفاق عليه مع الحكومة فتوقع اتفاقيات ولكن لا تنفذها، وهذا ما حدث مع الحكومة الحالية".
وتشير زبيس إلى أنّ إحدى المشاكل الأساسية اليوم أن النقابة لا تلقى صدى لصوتها، أي أن هناك سكوت من السلطة تجاه مطالب النقابة إضافة إلى رفض استقبال وفد النقابة.
في ظلّ الممارسات والتغيّرات السياسية، تواجه الصحافة في تونس تضييقا واسعا على صعيد الحريّات،
وتقول نائبة نقيب الصحافة أميرة محمد: "ألقت التغيرات السياسية بالكثير من المشاكل على كاهل النقابة خصوصاً في ظلّ الإعتداءات على الصحافيين والقوانين التي تضرب حرية الصحافة، بالإضافة إلى السياسة الممنهجة التي تعتمدها الحكومة لضرب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيين في المؤسسات التي تشرف عليها الدولة وتحت تصرف الحكومة. وبالتالي تقع مسؤولية إيجاد حلول والدفاع عن الحريات على كاهل النقابة، وهي مهمة شاقة جداً".
وتشير الصحافية حنان زبيس إلى أنّه "وسط هذه الممارسات والاستهداف، تحاول النقابة أولا أن تندّد بكل هذه الممارسات من تعدّيات واستدعاءات للصحافيين، أي أنّ الصوت سيبقى مرفوعا دائما".
ثانيا، تحاول النقابة تجميع مجموعة من منظمات المجتمع المدني حولها كي لا تكون وحيدة في المعركة، فقد حوّلت نقابة الصحافة في تونس معركة حريّة التعبير من معركة للصحافيين إلى معركة مجتمعيّة، أي أنّه ومع كل استدعاء أو عملية قمع لصحافي، تقوم النقابة بتحرّكات ضمن مجموعة من جمعيات المجتمع المدني فيكون بذلك تحرّك فعّال أكثر.
ولكن النقابة رغم كل ذلك تبقى مستقلة ولا تخضع لأي ضغوط من السلطة أو غيرها مهما كان نوعها، تحاول دائماً أن تكون في صف الشعب في صف الدفاع عن الحقوق والحريات عن دولة مدنية دولة القانون والمؤسسات فقط، ولذلك هي تقود الآن ائتلاف مدني مع منظمات من المجتمع المدني الأخرى للدفاع عن مدنية الدولة والحقوق والحريات بصفة عامة وعن حرية الصحافة بصفة خاصة، بحسب ما أفادت به زبيس.
تحوّل السلطة في تونس
مع تغيّر المشهد السياسي في تونس وتسلّم الرئيس التونسي قيس سعيّد السلطة ، أغلقت السلطات مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالقوة العامة، وعلق الرئيس سعيّد العمل بالدستور الذي وضع عام 2014، من خلال إصدار مرسوم رئاسي منظم للسلطات مكنه من التفرد بجميع السلطات وشرع في ملاحقة عدد من البرلمانيين وسياسيين، ومنع رجال أعمال ورؤساء أحزاب ومنظمات وقضاة وإعلاميين ومحامين من السفر.
وتقول الصحافية التونسية حنان زبيس: "شهدنا تحوّل كبير في السلطة بسبب القرارات الاستثنائية التي أخذها الرئيس التونسي في 25 تموز 2021 تدلّ على التراجع في الديمقراطية فقد ازدادت الممارسات القمعية وسياسة كم الأفواه".
وتضيف زبيس أنّ "مع الإنقلاب بدأت المحاكمات العسكرية ضد الصحافيين والتضييق عليهم وأيضا تم إقفال مكتب الجزيرة وتم الاعتداء على الصحافيين بشكل كبير خصوصا أثناء تغطيتهم للإنتخابات".
وقد ذكر تقرير لشبكة مراسلون بلا حدود أنّ "ترهيب الصحافيين أصبح أمرا شائعا في الساحة التونسية، حيث يتعرض الفاعلون الإعلاميون لأعمال العنف على أيدي المتظاهرين".
أما نائبة نقيب الصحافيين التونسيين أميرة محمد، فتقول: "إذا كانت التغيرات السياسية لا تطمح الى بناء الديمقراطية ولا تؤمن بدولة القانون والمؤسسات ولا تؤمن بحرية التعبير وبحقوق الإنسان في مفهومها الشامل والكوني، فإن هذه التغيرات ستسعى منذ بدايتها لضرب حرية الصحافة وضرب أي صوت ناقد لهذه التغيرات وستعمل على التشكيك في مصداقيته وتهميش الدور الذي تقوم به الصحافة لتقليص قدرتها على التأثير وعلى التغيير في الواقع".