|
العراق

الشباب العراقي كسر المحرّمات والمرأة الى الشارع - سهى عودة

تختلف "انتفاضة تشرين" 2019 في العراق عن موجات الاحتجاجات الشعبية السابقة التي شهدتها البلاد منذ شباط (فبراير) 2011. فطوال تسعة أعوام والعراقيون يحاولون التحرر من قبضة الميلشيات وتركيباتها السياسية الحاكمة التي عاثت في البلاد فسادا وقمعا. ما يميّز الانتفاضة الأخيرة أنها متحررة من أي وصاية سياسية، وتندّد بالسلطة السياسية بأكملها، حتى تجاوز الخطوط الحمراء وكسر قدسية الرموز السياسية والدينية والعشائرية في البلاد. الصحافيون يواكبون الانتفاضة ويدفعون ثمنا باهظا.

انجازات الانتفاضة

رغم التحديات الأمنية والدموية، لم يتردد العراقيون في تجديد حراكهم في العاصمة ووسط البلاد وجنوبها، باستثناء المدن الشمالية والغربية غير المنتفضة، التي تمّت استعادتها من تنظيم "داعش" قبل أقل من ثلاث سنوات.

أبرز ماحققته الحركة الأجتماعية للتيار المدني في تظاهرات ٢٠١٥، تمثّل بقدرتها على نقد الإسلام السياسي عبر رفع شعار"بإسم الدين باكونا الحرامية". لكن النتائج لم تحقق الطموحات، بعد ما تصدّر "تحالف سائرون" بقيادة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر نتائج الإنتخابات، اثر تزعّمه التظاهرات وإنهائها.

تجدّد الأمر بدعوات شبابية بحتة في ٢٠١٩، بعد التحشيد للتظاهر عبر مواقع التواصل الأجتماعي. إستند المحتجون بذلك على المادة الدستورية رقم(٣٨) التي تبيح حرية التعبير والإجتماع والتظاهر السلمي.

خرجت الاحتجاجات الأخيرة بشعار موحد، انضوى تحته الجميع مرددين "نريد وطنا"، وطنا يتمتع بسيادة من دون تدخلات خارجية، خال من الفساد وقيادة خارج المحاصصة الطائفية.

في السنوات السابقة كان المحتجّون ينادون بتحسين الخدمات، وتوفير فرص للعمل، وأقصى مطالبهم كان تعويضهم عن دماء أبنائهم الذين قاتلوا في سبيل الوطن. أما الجيل الجديد، فقد خرج منتفضا على "التابوهات" المجتمعية التي تفرض عدم التصريح بالرأي والالتزام بمفاهيم "عدم النقد"  و"تقديس" الرموز الحزبية والدينية والعشائرية. وبهذا كُسِر"عقد اجتماعي مستتر"، تم ترسخيه منذ نظام صدام حسين وصولا حتى سيطرة الأحزاب الإسلامية على السلطة.

يقول الصحافي العراقي سامان نوح "أن الانتقاد خلال مرحلة الاحتجاجات خرج من القالب المستتر الى الانتقاد الواضح والفاضح للطبقة السياسية عامة والمليشيات المسلحة، وصولا الى الزعامات الدينية السنية والشيعية على حد سواء".

المرأة العراقية في الشارع

ظهر جيل جديد "غير خائف من التهديدات"، يرفض القرارات الحكومية واجراءاتها، ويقود عملية الاحتجاج بشكل قوي. الجرأة بالطرح شجّعت كبار العمر على انتقاد سلوكيات مرجعياتهم بكل أشكالها. وعلى الجانب الآخر أدى ذلك إلى خروج عدد كبير من النساء اللواتي لم تكن مشاركتهن في التظاهر مقبولة بسبب القيود الاجتماعية والأبوية.

وجاء تواجد النساء من مختلف الأعمار مفاجئا للمجتمع العراقي. هتفن بشعارات نددت بالسلطة العشائرية وتحديدا في مدينة كربلاء، ذات الطابع العشائري والديني البحت، لينتقل الشعار الى بغداد. ومن أبرز الشعارات في هذا السياق كان "اليوم الكذلة تسولف خلي عكالك للدكات"، في اشارة الى أن الدور اليوم هو للمرأة وليس لشيخ العشيرة، الذي انحسر دوره في "الفصل العشائري" والتحكم بمصير المرأة وحياتها. 

ولم يكتف الشارع باستقالة رئيس الحكومة، بل رفض أيضاً كل مرشحي الأحزاب السياسية، ورفع صورهم في ساحات التظاهرات بغية "اسقاطهم" عبر استخدام المحتجين للبرامج الكوميدية والنكتة الساخرة، إضافة إلى فن الكاريكاتير والهتافات المباشرة والأغاني.

وبلغت الشعارات ذورتها مع أحتدام مشاعر الغضب والحزن، اثر أعلان الزعيم الديني مقتدى الصدر سحب تياره من التظاهرات، ما سمح بدخول قوات مكافحة الشغب وحرق الخيم، محاولين اغلاق الساحات واجلاء المعتصمين. فوصفه المتظاهرون بشعاراتهم "ذيلا ايرانيا" في اشارة الى اتهامه بالعمالة لدولة ايران. وبهذا شمله المحتجون ضمن أسماء تقود فصائل مسلحة تعمل لصالح أيران، أبرزهما فصيلي "بدر" و"العصائب".

الصحافيون يدفعون ثمن حرية الرأي

وتضيف المنظمة في تقريرها الأخير الذي صنّف العراق في المرتبة الـ156 دوليا في مجال حرية الصحافة، "أنّ مشروع القانون المتعلق بالجرائم الإلكترونية يزعج أهل المهنة؛ وهو ينص على عقوبات بالسجن (تصل إلى المؤبد) بسبب منشورات إلكترونية تمس بـ "الاستقلال والوحدة والوحدة الترابية للبلاد أو مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية"، وهذا الغموض يقلق الصحافيين العراقيين ويعيق ظهور صحافة حرة ومستقلة فعليًا.

واتسمت محاولات كسر التابوهات بالكثير من المخاطر والصدامات الدموية.ففي شباط (فبراير) 2014، خرجت تظاهرات منددة برسم (بورتريه) لمرشد الثورة الاسلامية في ايران علي خامنئي، نشره الرسام العراقي أحمد الربيعي في صحيفة "الصباح الجديد"، ما أدى إلى تهديد مقر المؤسسة الصحافية بالعبوات الناسفة، ودفع الربيعي إلى مغادرة بغداد إلى مدينة اربيل، حيث توفي بعد شهر في ظروف غامضة.

وبحسب منظمة "مراسلون بلا حدود" فإن الصحافيين في العراق هم "ضحايا الهجمات المسلحة والتوقيف والاعتقال أو التخويف من طرف ميليشيات مقربة من النظام وحتى من قوات نظامية".

 

وتكمن التحديات الصحافية في العراق ليس فقط في عدم وجود سقف عال للحريات، وقتل الصحافيين أو قمعهم، بل في عدم توافق التشريعات والقوانين مع الدستور، وكذلك الإفلات من العقاب وتحجيم حرية الصحافة. فمناخ الاعلام العراقي "مسيّس" وغالبيته مملوك من جهات حزبية تستخدم وسائل الأعلام كوسائل ترويج سياسي.

يذكر أن هيئة الاعلام والاتصالات الحكومية، حذّرت في وقت سابق المؤسسات الصحافية من المساس ب"الرموز الوطنية والدينية" أو عدم احترامها عبر وثيقة رسمية تم نشرها.

ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، ارتفعت حدة استهداف المؤسسات الاعلامية، اذ تعرضت مكاتب "العربية" و"الحدث"، و"دجلة"، و"الغد"، و"NRT" للاعتداء وضرب كوادرها وتكسير المعدات والأجهزة الإعلامية. كما أصدرت السلطات العراقية أمرا بإيقاف بث قناة "دجلة" الفضائية مدة شهر كامل.

وسجّل ايضا مقتل ثلاثة صحافيين عراقيين منذ بداية العام الحالي، آخرهم أحمد عبد الصمد مراسل قناة دجلة والمصور صفاء غالي، أثناء  تغطيتهما للاحداث في مدينة البصرة جنوب العراق.

وقد احصت  جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق التي يرأسها مصطفى ناصر، بعد موجة التظاهرات الثانية، "تعرض ٩٠ صحافيا الى انتهاكات متعددة بين منع تغطية، اعتقال، احتجاز، مصادرة أو تكسير معدات، أضافة الى تهديد فضائية في حال استمرت بالنشر ومواصلة البث، ما دفع المؤسسة إلى إغلاق أبوابها".

جهات "مجهولة" تتصدّى للمحتجين قنصا

ورغم توسع دائرة انتقاد شخصيات "محرّمة"، إلا أن حالة حرية التعبير كانت مزرية"، في ظل انفلات الاوضاع وعمليات التصفية التي طالت الاصوات المعارضة.

وقد أدت سلسلة مترابطة من الاجراءات إلى ترهيب الصحافيين والناشطين. بدأت هذه السلسلة بحملة اقتحام القنوات الفضائية، ثم عمليات اختطاف واعتقال ناشطين وصحافيين. وقد أتهمت السلطات الحكومية عناصر"مجهولة" بالاختطاف، ما فتح الباب لإنتشار مصطلح "الطرف الثالث"إعلاميا، في أشارة إلى وجود جهات خارجة عن القانون تنفذ كل أنواع البلطجة والقمع والجرائم بحق المعارضين.

وكان صمت الحكومة مريبا حول استخدام القوة المفرطة وعمليات القنص ضد المتظاهرين بشكل مباشر في بغداد من قبل أطراف مسلحة.يذكر أن عدد القتلى وصل لأكثر من ٦٠٠ قتيل، وسط أستمرار حملات دامية قامت بها السلطات في البصرة والناصرية، أدانتها ١٦ دولة بينها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، اعترضت على استخدام قوات الأمن والفصائل المسلحة القوة المفرطة تجاه المحتجين.

يقول الناشط المدني سلام أحمد أن "عددا كبيرا ممن تم اختطافهم أو أعتقالهم اثر مشاركتهم في التظاهرات، ذكروا أنه لا وجود لأوامر قضائية، ولم يمثلوا أمام جهة قضائية. بل تمارس هذا الدور جهات توصف بالمجهولة، وإن كانت حكومية فإنها تعتقل بشكل تعسفي غير قانوني".ومعظم الناشطين، بينهم نساء، لم يصرّحوا عن ظروف اعتقالهم، ولم يظهروا في ساحات الاحتجاج بعد إطلاق سراحهم. وقد روى أحدهم امام الاعلام كيفية تعرضه لعمليات تعذيب بشعة واعتداءات جنسية وتصويره بعد تعريته.

من جهتها، كشفت مفوضية حقوق الأنسان عن تبلغها ٢٥ شكوى متعلقة بخطف ناشطين من ذوي الضحايا منذ بدء التظاهرات، أُحيل غالبيتها إلى الادعاء العام، مع الاشارة الى أن القضاء العراقي هو المعني بالتحقيق والكشف عن الجناة.

الاعلام والاعلام المضاد

وقد استمرّ الناشطون بالتظاهر أضافة لقيامهم بتغطية مباشرة للخبر عبر كاميرات هواتفهم المحمولة، وبالتالي انتقلت المشاهد من الفيسبوك، تويتر وانستغرام  الى القنوات الأخبارية والصحف، ما أدى لظهور أسماء شبابية نقلت الحدث أولا بأول، وحصدت مئات الالاف من المتابعات أبرزهم عمر كاطع، علي سمير، ومتظاهر اخر يلقب بـ "أبو حلاوة"، ممن برعوا في أستخدام كوميديا النقد السياسي في نقل الحدث.      

يذكر أن عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في العراق بلغ ١٩مليون شخص بحسب "المركز الأعلامي الرقمي".  لكن رغم ذلك، لم تشمل التغطية كل المدن المحتجة وأقتصرت على الاحداث المركزية في بغداد، الناصرية والبصرة.

في الجهة المقابلة "ظهر أعلام مضادتابع للسلطات ولقنوات اعلامية تعتبر أذرع لمليشيات مسلحة مثل العهد والاتجاه،أضافة إلى إنشاء عشرات الصفحات على مواقع التواصل الأجتماعي"، كما يشرح  داؤد العلي، المتخصص في مراقبة الأعلام الاجتماعي.

ويضيف: "هذا الأعلام أطلق على المحتجين تسمية "الجوكر" و"التبعية الاميركية"، و"العملاء الصهاينة"، وأنتج العشرات من المواد الأعلامية في محاولة لصناعة رأي عام وتحشيد اجتماعي مضاد للاحتجاج".

أدّى عدم سيطرة الدولة على الوضع الأمني إلى بث حالة من الرعب والخوف في صفوف الصحافيين، ودفعهم للهجرة خارج بغداد بعد تلقي عدد منهم "تهديدات مبطنة" أو "صريحة" من مليشيات مسلحة.

تقول الصحافية ريا عاصي: "في ساحة التحرير (وسط بغداد) بين الجموع أردد الشعارات بلا خوف وبحرية، لكن كصحافية وضعتني المؤسسة تحت سقف تعبير منخفض جدا، ما يجعلني مقيّدة أيضا وخائفة من الحديث حتى عبر الفيسبوك".

ورغم تجاهل الاعلام لحركة الاحتجات في موجتها الأولى، وأهتمامه بتسليط الضوء عليها بعد حملات العنف المفرط ضد المحتجين، فان التغطية الأعلامية لم تتضمن نقدا خشية الهجمات المسلحة أو قطع البث "ما جعل الاعلام التقليدي غير قادر على مجاراة الاحداث والتظاهرات، ولم يواز حجم التوثيق الذي قام به الناشطون عبر صفحات التواصل الاجتماعي"، حسب ما يقول الصحافي مهند الغزي.

أي مستقبل للحريات؟

ان شعارات المحتجين قد طالت شخصيات لم يكن مسموحا سابقا الاشارة اليها ولو تلميحا، وهذا يبيّن تقبّل المجتمع لحرية رفع الصوت والتعبير، ما يجعل التساؤل مشروعا: هل سيكون سقف الحريات ثابتا ويؤسس لمرحلة جديدة أم رهنا بنجاح الحراك؟ بعض الاجوبة على هذا السؤال:

يقول سيزر الوردي وهو ناشط مدني متظاهر: "إن نقدنا للممارسة السياسية ورجال الدين داخل الساحات أمر جديد تماما لي ولأبناء جيلي، لكن منطقيا وعمليا لا يزال مفهوم حرية التعبير غير واضح لدينا".

ويضيف: "نحاول الأقتباس من تجار بالدول الأخرى التي نراها عبراليوتيوب أو من خلال التنقل والسفر، نكرر ثمن ضيف تجاربما يلائم واقعنا، وأظننا سنبقى هكذا لغاية صياغة مفهوم حرية تعبير خاصبنا كعراقيين".

ويرى الوردي، أن "الثورة" سوف تؤسس مفهوم الحريات بعد سنوات طويلة من "تكميم أفواه وتسييس الاعلام". لكنه ابدى مخاوفه من أن يتم تبنيها بشكل خاطئ غير احترافي، لأن الأمر برمته جديد على الواقع العراقي.      

بالنسبة الى داؤد العلي: "ان سقف حرية التعبير الحالي غير ثابت، ومرتبط بنجاح الحراك الاحتجاجي في تحقيق أهدافه".

ويقول فارسحرام، أكاديمي في جامعة الكوفة، أن "كسر التابوهات السياسية الذي أنتجته ثورة تشرين، سوف يؤسس لبيئة تشريعية جديدة تستوعب الرأي الناقد والمشكك، ويحقق مكتسبات قانونية، وتقدما حتى على مستوى الممارسة الأجتماعية".