|
لبنان

اللبنانيون يهزّون عروش زعمائهم - رولا فرحات

ماذا حققت ثورة 17 تشرين على صعيد حرية الراي والتعبير؟ ربما الاهم أن اللبنانيين باتوا يقولون علنا رأيهم بزعمائهم وقياداتهم السياسية والمسؤولين عن الشأن العام، وهو ما كانوا لا يجرؤون على القيام به سابقا. انها ظاهرة مهمة أن يكون الخطاب الشعبي هو نفسه على امتداد كل المناطق اللبنانية. لكن ما العمل للحفاظ على الانجازات التي حققتها الثورة في مجال حرية نقد الشخص العام؟

منذ بدء احتجاجات لبنان في 17 تشرين الاول (اكتوبر) 2019، تخطّت الهتافات حدود التقليد السائد في التعبير سابقا واسقطت الخطوط الحمراء عن هالات وشخصيات سياسية ودينية لم يكن من السهل انتقادها من دون ان يستتبع ذلك تداعيات قانونية وردات فعل انتقامية.

لقد بلغ سقف الانتقاد الموجه الى الطبقة السياسية الحاكمة حدّ التشهير والاتهام العلني بالسرقة والفساد. وأصبح هذا النقد خطابا يوميا يعبّر عنه المحتجون عبر كل وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وفي ساحات الاحتجاج. ورغم محاولات بعض زعماء لبنان التقليل من أهمية الاحتجاجات، عبر وصفها بالحراك، واتهامها بالمؤامرة الخارجية على البلاد، الا ان الخطاب النقدي المرتفع للحراك الشعبي يستحق ان يُلقّب بالثورة. انها ثورة على الفساد وعلى "التابوهات".  شعارات تجرّأت للمرة الأولى على النيل من سمعة جميع المسؤولين على مختلف الوانهم السياسية، ومطالبتهم بالرحيل.

وكان شعار "كلن يعني كلن" الأكثر انتشاراً وتحدياً في الشارع. لقد تجرّأ الناس على كسر قدسيّة كل الرموز السياسية والدينية التي كانت السبب في تفشّي الفساد وتوفير الحمايات الطائفية والمذهبية للفاسدين.

ما قبل 17 تشرين الأول الماضي، كان سقف التعبير والخطاب السياسي والاعلامي في لبنان منخفضا تحت جملة من المحظورات، ومنضبطا بقواعد قانونية تحظّر انتقاد رئيس الدولة، رموز العهد، رموز السلطة، الاقطاعيين، الزعامات التقليدية، الزعامات الروحية، المرجعيات الدينية، وحتى الرموز الدينية. وكان مبدأ تعزيز سطوة النظام في لبنان يقوم على تعزيز هيبة رموزه. هذه الهيبة عززتها النصوص القانونية الجزائية المتعلقة بالقدح والذم، وعززتها الرقابة المسبقة على الاعمال الفنية التي أرست خطوطا حمراء في التعبير الفني. وعززتها أيضا ممارسات الأجهزة الأمنية التي تستدعي وتلاحق الناشطين والصحافيين وحتى الناس العاديين في معرض التعبير عن آرائهم. وقد سجّل تقرير هيومان رايتس واتش ما بين عامي  2015 و2019 اخلاء سبيل 1461 شخصا بعد التحقيق معهم في دعاوى قدح وذم. وما عزّز هذه الهالات ايضا، تعدّيات مناصري الزعماء على الافراد والمؤسسات لاسيما الاعلامية التي تنتقد زعيمهم وفي اغلب الاحيان تبقى هذه التعديات من دون ملاحقة او محاسبة قانونية

وبحسب الصحافي يوسف بزي فإن "أهم ظاهرة حدثت في الثورة هي إظهار المواطنين اللبنانيين عن قدرتهم على صياغة خطاب سياسي اجتماعي اقتصادي بعيدًا عن الشعبوية، بالغ الوضوح، مباشر، متماسك ومقنع ولديه حججه. وهذا يعكس نوعًا من النضج. وان التحدي الكبير الذي أظهرته الساحات من فسحة كبيرة في التعبير هو كيفية المحافظة على هذا المشهد وتحويله إلى أمر بديهي وتكريس الطلاقة بالتعبير لتبقى مستمرة".

"الهيلا هو"

على عكس ما جرت العادة، لم تنحصر التظاهرات في بيروت وحدها، بل توسعت وتمددت إلى كل المناطق. تعددت الشعارات المطلبية والإصلاحية التي نادى بها المتظاهرون. وعمّ شعار "الهيلا هو" على قياس كل منطقة وخصوصيتها. ففي المناطق البعيدة عن بيروت، كانت الشعارات مدروسة وموزونة نسبةً إلى الضغوطات الحزبية والسياسية لإنهاء التظاهرات. أصرّ المتظاهرون في القرى والمناطق البعيدة على اعتماد شعارات تناسب بيئتهم الاجتماعية والحزبية. كان الهمّ الأكبر تشجيع الممتنعين عن التظاهر بسبب انتماءاتهم الحزبية وهواجسهم الطائفية  إلى النزول والتظاهر معهم. لم تخلُ تلك الساحات من اعتماد لغة الشتيمة إلا أنها كانت غير مرغوب بها

أما في بيروت، ولأنها العاصمة وتتمتّع بإنفتاح أكبر من غيرها، اختلطت الهتافات الثورية بالشتائم ضد زعماء الفساد. لغة جديدة على البيئة اللبنانية المحافظة أصبحت أكثر تقبلاً بين أطياف المجتمع، على مبدأ أن الوجع كبير وكل هذا في إطار "فشة خلق".

ويشرح بزي "أن إطلاق الناس للعبارات البذيئة والشتائم قصدًا خلال الثورة هو بمثابة تحدّ وكسر لنوع من المحرمات على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل الهوس من قبل السلطة الرسمية والسياسيين بملاحقة لغة السوشيل ميديا ومنسوب التعبير فيها بهدف قمعها".

"أن الثورة، بإطلاقها هذه اللغة، يتابع بزي، أطلقت ما في الصدور من لغة مكتومة، وأرى أن روح التحدي انفجرت على وسائل التواصل الاجتماعي في وجه السلطة من خلال ممارسة النقد، التجريح، الفضح، الاعتراض، الكشف من دون أي رادع لشعور أن الثورة أعطت حصانة للأفراد الذين تحولوا إلى مجتمع، وبقوة التظاهرات صاروا شعبًا. ومن ثم انتقل هذا المشهد إلى السوشيل ميديا ولم تعد السلطة قادرة على الاستفراد بالناشطين وملاحقتهم".

لم يعد الشتم محرمًا، وتحوّل إنتقاد المسؤولين والقيادات الحزبية الحاكمة إلى أمر واجب، رغبةً من المتظاهرين في المساواة فيما بينهم، لاعتبارهم شركاء في الجريمة بحق مالية الدولة وسياساتها النقدية الفاسدة. صار واجب التظاهر حقاً مكرّسًا وشرعيا لإنجاح الثورة. وهذا ما دفع السلطة ومن يمثلها من أحزاب إلى قمع هذا الحق الشرعي بكافة السبل. أوكل قادة الأحزاب إلى المناصرين مهمة التعرض للمتظاهرين وبث الخوف في النفوس، وتقدّمت السلطة لملاحقة المتظاهرين واعتقالهم بسبب مواقفهم (تقرير مهارت رصد حرية التعبير والاعلام خلال الثورة ص7). كل هذا لم ينجح في القضاء على الثورة وإعادة المتظاهرين إلى منازلهم.

الملاحقات القانونية وقوانين الإعلام

في هذا الإطار تشرح المحامية ليال صقر: "يفترض أن يمثل الصحافي أمام محكمة المطبوعات، إلا أن الممارسات تشير إلى العكس، فمنهم من يستدعى إلى المحكمة العسكرية أو مكتب جرائم المعلوماتية، وهذه الممارسات مخالفة لأبسط القوانين والحريات. نآسف لوجود قوانين تجرّم الصحافي والناشط، مثل المس بكرامة الرؤساء والمس بالذات الإلهية وقانون القدح والذم وغيرها من المواد التي تجعل الصحافي والناشط عرضة للعقاب والإحالة الى النيابات العامة والمحكمة العسكرية".

وتضيف صقر: "نحن نطمح اليوم إلى إقرار قانون اعلام جديد يضمن حرية التعبير وإلغاء المفاهيم والقوانين المطاطية التي تجعل الشخص خاضعا لاستنسابية القاضي والتجريم. كما نطالب باستقلال القضاء وإعادة النظر بقانون العقوبات وتعديل القوانين التي تمس الحريات وتحويلها من جرائم جزائية إلى نزاع مدني".

من جهته يقول بزي: "أن ارتفاع حرية التعبير ترافق مع زيادة تدخل مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، وتزايد ميل السياسيين الى استخدام قوانين القدح والذم والتشهير ورفع الدعاوى بحق كل مواطن يتجرّأ ويعبّر عن رأيه، وهذا نوع من الترهيب للناشطين. بالإضافة إلى القمع الرسمي، لدينا الإرهاب الميليشاوي الذي يجعل المساس ببعض القضايا ممنوعًا لعدم استفزاز أجهزة ميليشاوية قادرة على أن تمارس العنف والقمع ضد الأفراد".

دور الشاشات التلفزيونية في الثورة

وكان لافتاً في بدايات النقل المباشر للتلفزيونات حدة الاحتقان والجرأة والألم التي تحدث بها الناس على الشاشات، من دون أي رقابة مسبقة أو اي ضوابط لقواعد التخاطب. فلغة العامة كانت قاسية ومباشرة وغير منمّقة أو منضبطة تحت أي سقف من المحرمات. منهم من صرخ من شدة وجعه، ومنهم من اتهم الفاسد بالاسم، ومنهم من تحدّث عن دولة المستقبل وكيفية بنائها.

في هذا السياق، يقول بزي: "كانت الشاشات التلفزيونية حاجة ضرورية للتعبئة وإيصال الصورة، والمشهد " يُعدي". وقد كان التلفاز منبرًا لكثيرين من أصوات الثورة والدعوة إلى التعبئة وحشد الناس في الظهور. ولكن بتقديري التدخل أو التخريج الإعلاني للتغطيات والتعليق على ما يجري اتسم غالبًا بالانحياز الحزبي، وأحيانًا غوغائي معادِ للثورة لأن غالبية الوسائل الإعلامية كان لديها ميل للوصاية على الثورة وعلى صوتها في محاولة لتدجينها او تحويرها بما يخدم الوجهة السياسية لكل محطة إعلامية. من هنا لعب الإعلام دورًا سلبيًا".

انجازات الثورة في مجال التعبير

تشير المحامية ليال صقر إلى "ظهور حقّين تمكن الناس من استرجاعهما: الأول استعادة المساحات العامة وكسر حاجز الخوف، إذ تمكن الناس من التعبير بشكل سلمي. والثاني رفع سقف التعبير بعد ما أيقن اللبنانيون أن التعبير حق وحرية مطلقة".

عندما يتطور المجتمع  يفرض تطوره على القوانين والأنظمة ويخلق معه أعرافًا جديدة وتقبّل لما كان ليس مقبولا وهذا من بديهيات الحدث نفسه. على سبيل المثال، نقابة المحامين وانتخاباتها وحركتها وحقوقيتها بمواكبة الموقوفين وممارستها نوعا من الزجر تجاه السلطات الامنية واحراجها ثم الضغط عليها، هذا كله يؤسس مانعًا لأي تمادي من السلطات الأمنية في التعدي على الناس او تجاوز القوانين والصلاحيات.

يقول يوسف بزي: "على سبيل اللغة، ما صار يتم قوله علنًا مع تدوينه وكتابته، وصار يظهر بالصوت والصورة ليتحول إلى أمر عادي. إذًا من الصعب العودة إلى الوراء لأنه يكرّس نفسه. الشعارات، اللغة، الكلمات، العبارات، منسوب الوضوح والشفافية بالكلام كل هذا أصبح مرسخًا وأي أحد يتردد تجاه هذا النوع من الاستعمال سيظهر بمظهر القديم".

مبدأ الحق في نقد الشخص العام

في الأيام الاولى للثورة، تجاوز النقد حدود الخطاب السياسي التقليدي في لبنان. فانتقاد اي مرجعية سياسية او دينية لم يكن ليمرّ في الماضي من دون تبعات. القانون اللبناني يجرّم الرأي وينصّ على عقوبة الحبس.  ولا يزال يطبّق العقوبات الجزائية في ما يتعلق بالقدح والذم. واصبح من الضروري والملح في اي اصلاح لقوانين الاعلام وفي اي سياسة عامة ترمي الى تحصين حرية التعبير وصونها من اقرار مبدأ حرية نقد الشخص العام في معرض قيامه بمهامه. وأيضا الغاء الرقابة المسبقة على كل أشكال التعبير التي كرست تابوهات وخطوطا حمراء تقيّد الحريات العامة. وانطلاقا من هذا الواقع المتردّي، كانت مؤسسة مهارات تقدّمت من ضمن الاصلاحات التي تدافع عنها، باقتراح اقرار هذا المبدأ الذي اسقط من مشروع القانون الذي تدرسه حاليا لجنة الادارة والعدل في المجلس النيابي اللبناني. (مراجعة مسار قانون الاعلام)