|
ليبيا

الاعلام الليبي بين القمع والتبعية والهجرة - خيرالله إبراهيم

لم يؤد سقوط نظام معمر القذافي الى تحسين الوضع العام في ليبيا، بل باتت البلاد تشهد حروبا مختلفة مع تدخلات دولية متعددة. وبالتالي فان وضع الاعلام في البلاد لم يحقق التغيير المأمول، ومازال خاضعا لسلطة القوى العسكرية المتواجدة على الارض. وتبدو وسائل الاعلام في الداخل ناطقة بلسان هذه القوى العسكرية ومموّلة منها، في غياب قانون يضمن الحريات الاعلامية.

 

لم يختلف المشهد الاعلامي في ليبيا بين ثورتي "الفاتح" (1969) و"فبراير" (2011). فبدلا من أن تتحرر البلاد من قبضة نظام معمر القذافي وتشهد انفتاحاً في حريات التعبير والصحافة، دخلت في دوّامة من الصراع العسكري أطاح أية فرصة لقيام صحافة حرة ومستقلة.

"العمل في بنغازي وطرابلس صعب، وامكانية الوصول الى المعلومة هو حلم بالنسبة للكثير من الصحافيين الليبيين، وبعض الصحافيين اليوم يحرّضون على ابادة مدن وقتل المواطنين لأنهم تابعين لطرف سياسي اخر". هذا ما قاله الصحافي الليبي طارق الهوني رئيس تحرير وكالة "غيمة للأنباء" عن واقع الصحافة في ليبيا اليوم.

ويؤكد الهوني الذي يتخذ من تونس مقراً لوكالته التي تتمتع بشبكة من المراسلين في كل من بنغازي وطرابلس، "ان العمل الصحافي المستقل صعب جدا في ليبيا خصوصا من ناحية التمويل، وعلى الرغم من ان لدى الوكالة عدد من المشتركين وتعتمد عليها بعض وكالات الانباء الاجنبية، الا ان العائد المادي ليس على مستوى الطموح".

ويلفت الهوني الى وجود عدد محدود من الاذاعات والمحطات التلفزيونية التي تبثّ من داخل ليبيا، حيث ليس هناك قدرة لأي محطّة يختلف توجهها مع احد طرفي الصراع في بنغازي او طرابلس أن تعمل من داخل البلاد.

ليبيا قبل وبعد الثورة

خضع الاعلام في ليبيا الى سيطرة حكومية مشددة خلال حكم معمر القذافي من خلال الهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى وأمانة اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام، مع وجود بعض الاستثناءات حيث خاضت لفترة زمنية محدودة تجربة الإعلام الخاص الذي كان وراءه نجل القذافي سيف الإسلام القذافي بعد انشائه شركة الغد للخدمات الإعلامية عام 2007 ، والتي تملّكتها الدولة لاحقا وجعلت تبعيتها مباشرة للهيئة العامة للإذاعات.

وبعد ثورة عام 2011، اختارت الحكومة الانتقالية إلغاء الصحف الرئيسية وإنشاء مؤسسات جديدة. فتم إغلاق القناة التلفزيونية الرئيسية "الجماهيرية"، وبدأت المطبوعات الخاصة، والمواقع الإلكترونية، والمحطات التلفزيونية والإذاعية بالظهور بشكلٍ متسارع. لكن الصراعات المستمرة في ليبيا ادت الى إنشاء بيئة إعلامية تتسم بالفوضى. ففي ظل تضييق متزايد على حريات الصحافة من قبل مختلف اطراف النزاع الليبي، باتت البلاد تقبع حاليا في المركز 162 (من أصل 180 دولة) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي نشرته "مراسلون بلا حدود" في العام 2019. ومنذ عام 2011 قتل 19 صحافيا على الأقل، وكان أبرزهم محمد بن خليفة الذي عمل مصورا صحافيا لوكالة "أسوشيتد برس"، والذي قتل في كانون الثاني 2019 عندما كان يُغطّي مواجهات بين ميليشيات في طرابلس.

المشهد الاعلامي بين طرابلس وبنغازي

يضمّ المشهد الاعلامي الليبي عددا كبيرا من القنوات التلفزيونية التي تبثّ من تونس، تركيا، مصر والاردن، وهي مموّلة بالكامل من قطر والامارات، اذ تلعب هذه الدول دورا في ادارة الصراع السياسي-العسكري في ليبيا.

ومن أبرز المحطات التلفزيونية الليبية العاملة في الخارج: 

  • قناة الوطن، تبثّ من تونس وهي مقربة من حكومة بنغازي الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
  • قناة تبادل، تبثّ من تونس وقد اسسها مجموعة من رجال الاعمال الليبيين.
  • قناة ليبيا الاحرار، تبثّ من اسطنبول وهي مقربة من حكومة فايز السراج المعترف بها دوليا.
  • قناة سلام (النبأ سابقا)، تبثّ من اسطنبول، بعد ما تمّ حرق مقرّها في طرابلس من قبل احدى المليشيات، وهي مقرّبة من حكومة السراج.
  • قناة ليبيا HD،  تبثّ من عمّان وهي ممولة اماراتيا ومقربة من حفتر.
  • قناة 218 نيوز، تبثّ من عمّان وهي ممولة اماراتيا ومقربة من حفتر.
  • قناة الوسط، تبثّ من مصر ولبنان وهي قريبة الى الاعتدال في التعاطي مع الوضع الليبي.

يذكر ان الهيئة العامة للإعلام السمعي البصري المرتبطة بالحكومة الليبية المؤقتة في شرق البلاد، تحت سيطرة المشير خليفة حفتر، أصدرت قرارا في تموز (يوليو) 2019 يقضي بمنع السلطات المحلية من التعامل مع 11 محطة تلفزيونية اعتبرتها داعمة للارهاب وتهدد السلم الاهلي، وهي: قناة ليبيا الأحرار، قناة بانوراما،  قناة التناصح، قناة سلام، راديو وتلفزيون الوسط، مجموعة الرائد، قناة النبأ، قناة الوطن، قناة فبراير، التلفزيون الوطني الليبي، قناة الرسمية.

وأكد صهيب الخياطي، مدير مكتب شمال أفريقيا لمنظمة "مراسلون بلا حدود" أن وسائل الإعلام الليبية "تواجه أزمة غير مسبوقة، وقد أجبرت الفصائل المتنازعة الكثير منها على الإصطفاف طوعا أو قسرا؛ وعلاوة على استعمال وسائل الإعلام للدعاية، فإن أطراف النزاع السياسية والعسكرية تمارس رقابة على الإعلام؛ وإن هذا الاعتداء الجديد على حق المواطنين في الإعلام من شأنه أن يزيد من وطأة الأزمة التي تعيشها البلاد".

 

قانون لا يشرع العمل الصحافي

لا يزال الاعلام الليبي يخضع لقانون المطبوعات القديم  رقم  76الصادر عام 1972، وهذا القانون لا يمنح اي ترخيص سوى لوسائل اعلام تابعة للدولة. اي ان وسائل الاعلام الليبية من بعد العام 2011 غير مرخصة.

ويشرح رئيس تحرير موقع "أصوات" حسام الطير أن قانون المطبوعات القديم يجعل كل وسائل الاعلام الحالية غير قانونية، وبالتالي فان اي صحافي يعمل فيها هو لا يملك ترخيصا لممارسة المهنة من الدولة الليبية ويمكن ملاحقته قانونيا. تستخدم هذه الحجة للتضييق على الصحافيين، لاسيما في ظل عدم وجود نقابة للصحافة.

ويرى الطير ان المشهد الاعلامي منفتح بشكل اكبر في طرابلس مقارنة مع بنغازي، اذ ان مكتب الاعلام الخارجي التابع لوزارة الخارجية الليبية يمنح الصحافيين الاجانب ترخيصا بالعمل في طرابلس بشكل اسهل. في حين، يخضع الصحافيون في بنغازي لتضييق أكبر يفسّر قلة عدد الصحافيين الاجانب العاملين هناك.

وعن تعرض الصحافة لاعتداءات ما، يستنتج الطير: "لا تسجل الكثير من حالات التعدي على الصحافيين من قبل المليشيات الناشطة في طرابلس، لكن جهاز الاستخبارات العامة التابع للحكومة الشرعية يعتقل الصحافيين ويؤثر في عملهم من خلال استغلال المواد القانونية المرتبطة بالعمل من دون ترخيص وفقا لقانون المطبوعات 1972".

هذه النقطة القانونية ليست الوحيدة التي تستعمل ضد الصحافيين، اذ يؤكد رئيس تحرير وكالة "غيمة" طارق الهوني ان هناك موادا في قوانين اخرى تستغل ضد الصحافي، مثل المادة المتعلقة بمنع التواصل مع جهات اجنبية، الواردة في قانون العقوبات القديم، والتي تستغل لترهيب الصحافي على الرغم من ان الجهات الاجنبية في كثير من الاحيان تكون جمعيات حقوقية او مؤسسات اعلامية اجنبية.

فوضى اعلامية

لا يوجد في ليبيا المنقسمة جسم موحد للصحافيين أو نقابة تحميهم أو تدافع عن الحريات بشكل ملموس، الأمر الذي كان سببا في انفلات الشارع الإعلامي والصحافي. فالكثير من منابر الصحافة والتلفزيون أصبحت منابرا للخصومة والحشد والتحريض ومنصات لتوجيه خطاب الكراهية بشكل يهدّد وحدة ليبيا والسلم الأهلي والاجتماعي. فغالبية القنوات التلفزيونية والصحف أصبحت تأخذ من دول أخرى مقرات لها، معتمدة أجندات سياسية واقليمية مختلفة، تغذّي الصراع الداخلي.

كما انخرطت القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية في لعبة الاصطفافات بين الفريقين المتقاتلين. أما الأصوات المغايرة فهي موضع اتهام من الطرفين وهي تخشى رفع الصوت لتجنّب تعرضها للاستهداف، اذ كان العام 2019 مليئا بالانتهاكات ضد حرية التعبير، وأبرزها تغييب عضو مجلس النواب عن مدينة بنغازي سهام سرقيوة التي طالبت بوقف الحرب في طرابلس. وكانت سرقيوة اختُطفت من منزلها في مدينة بنغازي في 17 يوليو/تموز 2019.

التعبير عن الرأي ..انتحار ببساطة

يقول صلاح نقاب وهو باحث أمازيغي ليبي إختار ألمانيا مقرا لاقامته، أن الهجرة لم تكن خياره، إلا أن معلومة وصلته وهو في ألمانيا من شخص مقرب من "تنظيم أنصار الشريعة" المتطرف بأن اسمه مدرج في قائمة استهدافاتهم، ما جعله يختار عدم العودة الى البلاد. ويوضح نقاب أن "المضايقات التي يتعرض لها الصحافيون أو الناشطون على مختلف تياراتهم تتراوح بين التهديد والاختطاف والاعتداء بالضرب والتشهير والابتزاز وصولا الى القتل".

ويضيف "أن حرية التعبير في ليبيا اليوم غائبة في ظل عدم وجود فكرة احتكار الدولة لاستخدام العنف، وغياب سلطة القانون"، وبالتالي فان البيئة الضامنة للحريات غير متوافرة، بسبب "تراجع الجميع خطوة الى الوراء للاستسلام لقيود القبيلة، الدين والمذهب، اذ أصبح الناس طائعين مستسلمين لهذه القيود وراضخين لها، الأمر الذي يجعل فكرة التعبير عن الرأي المخالف انتحاراً".

ليبيا لم تعرف الحراك الشعبي

وعن تقييمه التجربة الليبية يقول نقاب أن "اسقاط النظام، تجربة ليست ليبية بالكامل، وهي لم تنته لكي نحكم بفشلها أو نجاحها. ما حدث في ليبيا ابتداء من 2011 وصولا الى اليوم هو جزء من حرب دولية لم يكن للداخل الليبي فيها أي تأثير أو دور سوى موقف المتفرج أو الأداة، فلم يحدث حراك مجتمعي ولم تظهر تيارات فكرية نخبويّة تخوض جدالا فكريا حول مشاريع ملائمة للليبيين، من الليبيين أنفسهم (...). أن التجربة الليبيّة لم تولد ولادة طبيعيّة لكي تنضج وتنمو نموا طبيعيّا أيضاً، ما حدث فقط هو الإطاحة بنظام سياسي بفعل تدافعات قوى دولية، أما الداخل الليبي فلا يزال حائرا لم يجد فيه أصحاب الرأي مساحة تمنحهم دافعا لإحداث ثورة حقيقية، فالثورة لا تحدث بتغيير نظام سياسي بل تحدث بتغيير القيم والأنماط السلوكيّة السائدة".

ويشير نقاب إلى إن "الليبيين ينقصهم الكثير كالتحرر من ثقافة المجتمع الريعي والارتباط بمفاهيم العيش المشترك والتاريخ المشترك وترسيخ قيم المواطنة الفردية والعودة لدائرتها الحقيقيّة. فلو كنت تقصد الدائرة الموجودة فيها الآن وهي الدائرة العربية أو الإسلاميّة، فإن لليبيا دوائر أعمق وأوسع، أهمها دائرة كونها متوسطيّة وتمتلك تاريخا مشتركا مع جيرانها حول المتوسط".

اعلام رهينة المال السياسي

وحول الواقع القمعي بحق الصحافيين العاملين في ليبيا، يتهم رئيس المركز الليبي لحرية الصحافة محمد الناجم السلطات والأطراف على مختلف توجهاتها في شرق البلاد وغربها بالضلوع في أعمال العنف التي تطال الصحافيين.

ويؤكد ان المركز دائما ما يشدد على ضرورة حماية الصحافيين ويحث السلطات المختلفة على بذل مجهود أكبر من أجل تأمينهم، مشيرا إلى أن المركز بدأ وبعد الأحداث الأخيرة التي عصفت بالبلاد، في تقديم معدات السلامة للصحافيين أثناء تغطيتهم على جبهات القتال. ويوضح الناجم أن حالة النزاع لم تسمح للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التعاون مع المركز في فتح الملفات المتعلقة بالجرائم التي يتعرض إليها الصحافيون. 

ويأسف الناجم بأن وسائل الإعلام اليوم مملوكة من اطراف سياسية ويتحكم بها المال السياسي بشكل مباشر ما يجعل هذه المنابر الإعلامية شريكا بشكل مباشر في حالة العنف والنزاع والانقسام في البلاد، مؤكدا أن عملية الرصد الإعلامي التي يقوم بها المركز تثبت هذا الأمر. 

"ان الواقع الصحافي اليوم في ليبيا، يضيف الناجم، في حاجة لعمل أكبر في مسارات عديدة أهمها مكافحة الإفلات من العقاب ووقف الجرائم والاعتداءات بحق الصحافيين، بالاضافة إلى مسار إعادة هيكلة وإصلاح المؤسسات الإعلامية والأطر التنظيمية والقانونية المتعلقة بالإعلام غير الموجودة".

وكان المركز الليبي لحرية الصحافة قد وثّق في تقريره الأخير بعنوان "صحفيو ليبيا طريق مليء بالمخاطر والعنف"  الذي أصدره بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة، أنه خلال عامي 2018 – 2019 تم رصد 88 حالة اعتداء طالت 41 منها مراسليين ميدانيون و18 حالة اعتداء تجاه مصورين صحافيين و12 حالة تجاه المحررين الصحافيين و9 جهات إعلامية و8 عاملين في حقل الاعلام.

وعدد التقرير حالتي قتل عمدا وثلاث حالات إخفاء قسري واربع حالات شروع في القتل وتسع حالات اعتداء بالضرب وتسع حالات أخرى تم فيها التهجم على مؤسسات إعلامية وخمس توقيفات واحتجاز مؤقت لصحافيين و14 حالة من الاعتقال التعسفي، أما حالات التهديد والمنع من العمل فبلغت 34 حالة.

أما الأطراف المتهمة بالاعتداءات فهي تتباين بحسب التقرير ما بين جهات مجهولة وقبلية وسلطات محلية وتنظيم الدولة الإسلامية وأجهزة أمن تابعة لحكومة الوفاق وقوات تابعة لعملية الكرامة.