|
اليمن

الحرّيات الاعلامية ضحيّة الحرب - اصيل سارية

ضاقت مساحة الحريات الإعلامية في اليمن بصورة لافتة في ظل استمرار الحرب وتزايد الانتهاكات ضدّ حرية التعبير إذ يقبع اليمن في المركز 168 من 180 دولة حسب مؤشر حرية الصحافة العالمي لـ"مراسلون بلا حدود"، بالإضافة إلى غياب مقومات الحريات الإعلامية وتجذّر حالة معاداة الاعلام التي يتّسم بها المشهد الإعلامي في أسوأ تجلّياته.

بعد أشهر من الاعتقال والتعذيب في سجن المنطقة العسكرية الثانية في مدينة المكلا، قرّر الصحافي صبري سالمين بن مخاشن مغادرة اليمن والانضمام الى أسرته في القاهرة. لكن قرار منعه من السفر كان في انتظاره في مطار سيئون الذي تسيطر عليه الحكومة المعترف بها دولياً. أما "الجريمة" التي ارتكبها بن مخاشن، فكانت تعليقا نشره على صفحته على "فايسبوك" ينتقد فيه محافظ حضرموت فرج البحسني. 

قصة بن مخاشن تختصر واقع حال الصحافيين في اليمن الذين يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات والمخاطر، من دون التمييز بين المناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين في صنعاء أو للحكومة الشرعية في عدن.

حرية لم تدم طويلا

لا شك في أن سقوط الرئيس علي عبدالله صالح مطلع العام 2012، وتقاسم احزاب المعارضة الحكم في اليمن، شكّل نقطة تحوّل في مشهد الحريات الاعلامية، فنشأت القنوات التلفزيونية وارتفع عددها وانتشرت الاذاعات المحلية في كل مكان. إلا أن هذه النشوة الاعلامية لم تدم طويلا، إذ جاءت الحرب لتقضي على فرصة حرية الصحافة والتعبير أمام دخول قوات الحوثيين وقوات التحالف العربية في صراع دموي مفتوح حول من يسيطر على اليمن.

خلال فترة ما قبل الحرب التي اندلعت العام 2014، شهدت البلاد نهضة اعلامية محدودة، توّجت بصدور قانون حق الحصول على المعلومات، فكان اليمن احد الدول القليلة في المنطقة التي تعتمد معايير الشفافية، وهو ما اعتبر انتصارا للصحافيين والمنظمات المحلية التي كانت تنادي بتعزيز حرية الاعلام وتمكين الصحافيين في تأدية واجبهم.

ويعتبر خالد الهروجي، نائب رئيس مجلس ادارة مؤسسة الثورة للصحافة والنشر، والذي يعمل مع شبكة "اريج للصحافة الاستقصائية"، "أنه ليس من الانصاف الحديث عن ازدهار الصحافة والاعلام بعد ثورة 2011 بمعزل عن الفترة التي سبقتها، حيث كانت الصحف والدوريات والمواقع الاخبارية قد انتشرت بشكل كبير ووصل عددها إلى اكثر من 300 صحيفة يومية ودورية؛ بعد الثورة تكسّرت الاصنام البعيدة عن النقد والمساءلة". 

ويشرح الهروجي "ان الصحافي بعد 2012 بدأ يشعر بأن القيود زالت وارتفع سقف الحرية، وانتقل إلى مناقشة قضايا كانت محظورة سابقا مثل انتقاد رئيس الجمهورية والحكومة والاحزاب وبعض الشخصيات القبلية. وتوّج هذا الزخم بصدور قانون الحصول على المعلومات وكذلك اعداد مسودة قانون الاعلام الجديد الذي كان من المفترض ان ينقل الاعلام اليمني إلى مرحلة متقدمة، لكن هذه المكاسب التي تحققت للاعلام اليمني لم تدم طويلاً". 

"ان الحرب ادت إلى انهيار تلك المكاسب، يضيف الهروجي، بعدما سيطر الحوثيون على غالبية وسائل الاعلام اليمني وحجبوا المواقع الالكترونية واغلقوا القنوات التلفزيونية بإستثناء الحكومية التابعة لهم، وبالتالي اصبحت الساحة الاعلامية في اليمن خالية من اعلام مضاد أو معارض".

الصحافة في أسوأ ايامها

ومع اندلاع الحرب في العام 2014، تصاعدت حدة الانتهاكات ضد الصحافيين حيث قتل اكثر من 43 صحافيا واصيب 80 منذ العام 2015 حتى بداية العام 2020، وفق تقرير اصدره مركز الاعلام الاقتصادي. وتعرض العديد من الصحافيين للاختطاف والاعتقال والتحقيق خارج اطار القانون. ويرى محمد اسماعيل، المدير التنفيذي لمركز الاعلام الاقتصادي، أن" منذ ما يزيد عن اربع سنوات لا يزال الصحافيون اليمنيون يدفعون الثمن غاليا في ارواحهم وقوتهم، فبالإضافة إلى مقتل العشرات منهم خلال الفترة الماضية فإن حوالي 18 صحافيا لا يزالون في السجون، جلّهم لدى جماعة الحوثي ومضى على اختطافهم ما يقارب اربع سنوات." ويشرح اسماعيل دور المرصد وهو"مراقبة حرية التعبير في اليمن ورصد الانتهاكات التي تمس الحريات الاعلامية".

ولم تقتصر هذه الاعتداءات على مناطق سيطرة الحوثيين، ففي مدينة تعز وسط اليمن تعرض العديد من الصحافيين إلى الاعتقال من قبل المباحث الجنائية بسبب نشر معلومات على صفحاتهم الالكترونية الشخصية. من بين هؤلاء الصحافي وجدي السالمي مراسل "العربي الجديد" والذي عمل على توثيق العديد من انتهاكات حقوق الانسان، إذ تم استدعاؤه إلى المباحث الجنائية في تعز، رغم أن تهمته ليست جنائية وانما تهمة نشر مجموعة من التقارير عن وضع الحريات في المدينة. ويعمل وجدي حاليا متنقلا بين تعز وعدن خوفا من الاجراءات والتهديدات التي تعرض لها. 

ويقول الصحافي فؤاد راجح: "لا شك في ان التهديدات التي تطال الصحافيين والناشطين تزايدت كثيرا بعد احداث "الربيع العربي" وصولا إلى الحرب الحالية. وانا شخصيا تعرضت للتهديد المباشر والاعتداء من قبل اشخاص محسوبين على الرئيس السابق علي عبدالله صالح في العاصمة صنعاء."

ويضيف راجح ان عددا من  الصحافيين في اليمن قرر بعد العام 2014 عدم تناول اطراف الصراع تجنباً للتهديد والاعتقال والقتل. "إن جميع الحكومات التي ظهرت منذ العام 2011، حكومة الشرعية المعترف بها دوليا وحكومة الحوثيين، مسؤولة عن الانتهاكات والتهديدات التي يتعرض لها الصحافيون، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي او عبر التهديد المباشر. وهناك اطراف اخرى مثل حزب الاصلاح (الاخوان المسلمين) والمجلس الانتقالي الجنوبي وحتى تنظيم القاعدة (قبل سقوطه في اليمن)، متورطة في الانتهاكات ضد الصحافيين وهذا شيء طبيعي نتيجة ضعف الدولة وغياب دورها في حماية الصحافيين".

ويعتبر نبيل الاسيدي عضو مجلس نقابة الصحافيين اليمنيين "ان الحريات الاعلامية في البلاد تعيش اسوأ ايامها، حيث ان الصحافيين يشكلون الشريحة الاكثر استهدافا من جميع الاطراف، وان كان الحوثيون في طليعة المتهمين بانتهاك الحريات الاعلامية." ويضيف الاسيدي "وثقنا في نقابة الصحافيين اكثر من 1300 انتهاكا متنوعا خلال سنوات الحرب الماضية من بينها 35 صحافيا تم قتلهم اما بالقنص المباشر او اثناء تغطيتهم للنزاع ."

ويتابع: "ان الكارثة الاكبر التي حلت بالاعلام اليمني ان المفاهيم القيمية والمعايير المهنية والصحافة المستقلة زالت تماما نتيجة الحرب والاستقطابات الكبيرة التي قسّمت البلاد، بالاضافة إلى أن اطراف النزاع فتحوا الباب لدخلاء الى المهنة، واصبحت العملية مجرد تطبيل واعلام حربي." ويشدد على "أن تخلي الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا عن الصحافيين الذين يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين، عبر رفض دفع رواتبهم واتهامهم بمناصرة الحوثيين، وهي تهمة شبيهة بالتي اطلقها عبد الملك الحوثي بداية العام 2014 واعتباره الصحافيين اخطر من المقاتلين".

النقابة الغائبة

امام هذا الواقع للإعلام في اليمن، تبقى نقابة الصحافيين الغائب الأكبر عن معركة الحريات الاعلامية، حيث لم يتجمع اعضاء مجلس ادارتها منذ العام 2014، واقتصر عملها على اصدار البيانات عبر صفحتها على الفيسبوك. يقول العضو في النقابة منصور الدبعي "أن نقابة الصحافيين ضعف دورها كغيرها من المؤسسات العاملة في اليمن والتي تأثرت بالحرب، اضافة الى ان جزءا من اعضاء مجلس النقابة اصبح خارج اليمن وجزءا منهم اصبح مسؤولا في الدولة".

ويضيف الدبعي: "ان كيان النقابة لم يعد موجودا والاعضاء بعيدين عن النقابة، ولم يتبق منهم إلا القليل الذي يتضامن مع الزملاء ويصدر البيانات من وقت إلى آخر. كما أن النقابة لم يعد لديها ميزانية تشغيلية، الأمر الذي جعلها تعيش اسوأ ايامها، وهي بحاجة إلى اعادة هيكلة وتجديد وانتخاب اعضاء جدد خصوصا انها اصبحت محسوبة على عدد من اطراف النزاع."

"أن نقابة الصحافيين هي منظمة مجتمع مدني وهي احدى الجهات التي تم استهدافها في العاصمة صنعاء مثلها مثل المؤسسات المدنية والحقوقية، يقول نبيل الاسيدي، وقبلها تمّ استهداف اعضاء مجلس النقابة، حيث كنت انا والاعضاء تحت المضايقة المباشرة، وبعدها تمّ قطع الاعتمادات المالية الحكومية التي كانت تسلم للنقابة، وتمّ منع اية تظاهرة تقام داخل النقابة او خارجها، وثم استقدم مسلحون إلى مركز النقابة في صنعاء ما ادى إلى اغلاقها".

الاعلام الحوثي

يتسم الاعلام في مناطق سيطرة جماعة الحوثي بإعلام الصوت الواحد، اذ تغيب عن الساحة الإعلامية وسائل الاعلام المستقلة والحزبية حيث توقّفت العشرات من الصحف والمواقع والقنوات او اضطرت إلى نقل مقراتها إلى مناطق أخرى ومنها على سبيل المثال: 

  • قناة "اليمن الفضائية"، قناة "بلقيس"، "يمن شباب"، "سهيل"، "اليمن اليوم".
  • اما الصحف فمنها: صحيفة "الثوري"، "الصحوة"، "اليمن اليوم"، "المصدر اونلاين"، "الشارع"، "اخبار اليوم" و"12سبتمبر".
  •  المواقع الإخبارية منها: "الثوري نت" و"الاشتراكي نت نيوز"، "يمن برس" و"يمن مونيتور" و"وكالة خبر" و"مارب برس" و"الوحدوي نت" و"يمن تايمز".

في مقابل ذلك، شهدت الساحة الإعلامية في صنعاء ولادة عدد من الصحف والاذاعات ووسائل الاعلام التي تسير في ذات الخط السياسي لجماعة الحوثي كصحيفة "اليمن الجديد" الأسبوعية الصادرة عن التوجيه المعنوي التابع لجماعه الحوثي، وإذاعة "اصاله اف ام" واذاعة "الأولى" ومجلة "الاتحاد".

 بدا ان المشهد الاعلامي في مناطق سيطرة الحوثيين يزداد ضيقا بالنسبة للصحافيين، حيث لا زالت السلطات في صنعاء تحاكم 10 صحافيين امام المحاكم الجزائية والجنائية في قضايا نشر مع عقوبات تصل احيانا الى الاعدام بتهم مختلفة أبرزها تسريب المعلومات والعمالة وخيانة الدولة.

وقبض مسلحو جماعة الحوثي على الصحافيين العشرة، في حزيران (يونيو) 2015، بالعاصمة صنعاء، من دون الإعلان عن الاتهامات الموجهة إليهم، غير أنها سبق واتهمت صحافيين آخرين بـ"التخابر" مع قوات التحالف العربي.

ضبابية المشهد في عدن

 

المشهد الإعلامي في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، يتّسم بنوع من الضبابية. ففي حين تتصاعد حدّة الانتهاكات في بعض المحافظات تتراجع في أخرى، ويعد العامل الحاسم في التعامل مع الاعلام طبيعة القوى العسكرية والسياسية المسيطرة على تلك المناطق، اذ من الصعب النظر إلى مناطق سيطرة الحكومة بأنها كتلة واحدة. لذلك فإن وضع الاعلام شهد حالة من الانتهاكات المتصاعدة خلال العام 2019 بلغت 62 انتهاكا، بحسب مرصد الحريات الاعلامية، قام به عدد من الأطراف بمناطق سيطرة الحكومة اليمنية منها ما سجلت ضدّ الحكومة واطراف تابعة لها، ومنها ما سجّلت ضد مجهولين او متنفذين.

ورغم أن مناطق سيطرة الحكومة وتحديدا عدن وتعز ومأرب قد شكلت ملاذا للمئات من الصحافيين الذين غادروا صنعاء خشية الملاحقات، إلا أن تلك المناطق هي الأخرى تتسم ببيئة معادية للإعلام المعارض والمستقل وفقا لتوجهات الجهة التي تفرض النفوذ والسيطرة، كمثل منع صحيفة "الشارع" من الدخول الى تعز ومأرب لأنها انتقدت الفساد في الجيش، وتمّ اعتقال موزّع الصحيفة لأكثر من شهر.

مثال آخر على التعرض للصحافيين في مناطق سيطرة الشرعية، يتمثل في اعتقال الصحافي وجيه السالمي، الذي نشر وثائق على الفايسبوك عن الفساد في الجيش في مدينة تعز، وقد تم استدعاؤه من الأمن الجنائي غير المخول محاكمة او استدعاء الصحافيين. 

كذلك، تم حرمان بعض وسائل الاعلام من العمل في منطقة الشرعية،  كما هي الحال مع إغلاق قناة "بلقيس" في عدن واذاعة "لنا" وصحيفة "اخبار اليوم"، وحرمان قناة "الجزيرة" الفضائية من إعادة فتح مكاتبها في اليمن والتي تمّ إغلاقها في مطلع كانون الثاني (يناير) 2018، نظرا للازمة التي نشبت بين كل من السعودية والامارات من جهة وقطر من جهة أخرى.

الاعلام اليمني في الخارج

أدت الحرب التي تشهدها اليمن منذ العام 2015 إلى نشوء ظاهرة جديدة في الاعلام اليمني، حيث تشكل إعلام يمني خارج اليمن في كل من القاهرة والرياض وإسطنبول وبعض الدول الأخرى، وتضمّ هذه الدول أبرز القنوات الفضائية اليمنية وبعض المواقع الالكترونية وفقا لتقرير مرصد الحريات الاعلامية في اليمن.

 ويتّسم الاعلام الخارجي بالاعتماد بصورة مباشرة على تمويل خارجي سواء من دول أو أحزاب او جماعات، وبالتالي فإن استمرار هذا الاعلام وصموده يعتمد على قدرة الممول في استمرار الدعم، وهو يفتقر إلى الاستقلالية كما يفتقر إلى عامل الاستدامة الذاتية. 

كذلك، اثبتت بعض تلك القنوات والمواقع الالكترونية التي تبثّ من الخارج قدرتها على المنافسة وتقديم إعلام استطاع جذب أعداد متزايدة من المشاهدين والمتابعين، رغم افتقارها إلى الاستقلالية في ظل تنفيذ أجندات الدول الممولة المتصارعة في اليمن.