|
التغطية الإعلامية

الاعلام العربي في زمن "كورونا" بين السقطات المهنية ورقابة السلطة - حسان شعبان

لم يحظَ أي وباء أو مرض في العالم باهتمام اعلامي كبير كما فعل فيروس كورونا المستجد. وضع كوفيد 19 المؤسسات الإعلامية أمام اختبار قاسٍ للمصداقية والمهنية منذ اعلانه جائحة عالمية. ووقع  المشهد الإعلامي في سقطات غير مهنية وانزلق في بعض الدول نحو خطاب الكراهية والعنصرية تجاه الآسيويين والوافدين.

لم يحظَ أي وباء أو مرض في العالم باهتمام اعلامي كبير كما فعل فيروس كورونا المستجد. وضع كوفيد 19 المؤسسات الإعلامية أمام اختبار قاسٍ للمصداقية والمهنية منذ اعلانه جائحة عالمية. تدفقٌ هائلٌ من المعلومات تتضمن  خليطاً من الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة والروايات الرسمية مما جعل الصحافيين يكابدون في التنقيب عن المعلومة الصحيحة في بحر من الأكاذيب، وهذا ما دفع منظمة الصحة العالمية للتحذير من وباء المعلومات infoedmic  نظراً إلى فيض الأخبار الكاذبة والمثيرة للهلع. وطالبت المنظمة الإعلاميين لاستقاء معلوماتهم من مصادرها المباشرة ومواقعها الالكترونية.

لا ريب في أن إجراءات التحقق والتدقيق تتطلب وقتاً طويلاً نسبياً بينما تسعى المؤسسات الاعلامية إلى التفرد والسرعة لتحظى بالسبق الصحفي. ومن المؤكد أيضاً أن المفردات الصحافية المخيفة والغامضة تجذب الدهماء، ولذلك يميل بعض أهل المهنة الى وصف فيروس كورونا المستجد بالفيروس القاتل، وهو إضافة الإثارة الى القصة الصحفية دون الاكتراث إلى ما يثيره التوصيف من خوفٍ وهلعٍ عند الجمهور وما يترتب عليه من انعكاسات صحية عند المتلقي. ووقع  المشهد الإعلامي في سقطات غير مهنية وانزلق في بعض الدول نحو خطاب الكراهية والعنصرية تجاه الآسيويين والوافدين.

تونس

وفي تونس، اقتحمت مراسلة برنامج "كلنا تونس" الذي تعرضه "القناة التاسعة" مركز الحجر الصحي المخصص للمشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا المستجد. وأصرت المراسلة على استصراح المحجور عليهم مباشرةً على الهواء مما أثار غضب الموجودين الذين آثروا عدم التجاوب معها رفضاً لانتهاك خصوصيتهم؛ بيد أن المراسلة استمرت في رسالتها موجهةً المزيد من الاسئلة، فعلا صوت احد المعترضين محاولاً إيقاف رسالتها فوبخته الصحافية التونسية قائلةً "سأدعكم ليأكلكم الدود في حجركم الصحي".  

لبنان

فور انتشار أول حالة كورونا في لبنان، قامت بعض وسائل الإعلام اللبنانية بنشر اسم المريضة وعرض جواز سفرها في المواقع الالكترونية بتجاوزٍ صارخٍ  لأخلاقيات المهنة وأصولها لناحية خرق خصوصية المريض. وقد وصل التمادي ببعضهم إلى حد نشر صورة المريضة وهي نائمة في سرير المستشفى  دون مراعاة لما يسبّبه هذا الفعل من إيذاء معنويّ لها ولعائلتها. وقامت احدى محطات التلفزة اللبنانية بتصوير أماكن سكن المحجورين مظهرةً وجوههم في سياق مراقبة مدى التزام المغتربين بإجراءات الحجر مما قد يعرضهم لمضايقات وتنمر من جيرانهم والمحيطين بهم جغرافياً.

الجزائر

وأثارت وفاة طبيبة جزائرية جراء إصابتها بـ"كوفيد١٩" استنكاراً واسعاً. الطبيبة كانت حاملاً في الشهر الثامن وكانت قبل مدة قصيرة من وفاتها قد طلبت من مدير المستشفى إجازة تحميها وتقي جنينها من خطر الاصابة بالفيروس لكن تم رفض طلبها. أصرّ وزير الصحة عبد الرحمن بن بوزيد على تقديم واجب العزاء لذويها، وعقد مؤتمراً صحفياً من غرفة نوم الطبيبة الجزائرية في منزلها، فاحتشد الصحافيون والفرق الفنية من مصورين ومهندسي صوت في الغرفة الصغيرة نسبياً دون أدنى مراعاة للتباعد الاجتماعي المفروض ضمن إجراءات العمل الخاصة للإعلاميين في زمن الجائحة. كما قاموا بتصوير الأغراض الشخصية للطبيبة المتوفاة. بالرغم من أن اللائمة الكبرى تقع على عاتق الوزير باختياره مكاناً غير مناسب لإجراء لقاءات إعلامية إلا ان الصحافيين لم يظهروا أدنى مسؤولية في التقيد بالتباعد الاجتماعي المفروض ولم يظهروا الاحترام الكافي للخصوصية باختيار كادرات تصويرية تظهر المقتنيات الشخصية للمتوفاة.

مصر

يتبدل المشهد الإعلامي في مصر وفق الاجندة السياسية والخطاب الرسمي، ففي البدء تعامل الإعلام المصري مع الفيروس باستهزاء وإنكار، وفِي إطار ساخر، استضاف  الإعلامي جابر القرموطي ضمن برنامجه "الكلام على ايه" الذي يعرض في قناة "الحياة"  شخصاً متنكراً بزيّ على شكل فيروس وتناول بسخرية موضوع الفيروس مقللاً من خطورته وتهديده. وأخذت الخفة ببعض الاعلاميين للادعاء بأن المصريين لا يصابون بالفيروس لأنهم يكثرون من تناول الحبوب والبهارات!

الكويت

وشهدت الكويت حملة عنصرية تجاه العمال الوافدين وصلت ذروتها مع مداخلة الفنانة حياة الفهد التي دعت الى طرد الوافدين خوفاً من "كوفيد ١٩" وطالبت برميهم في الصحراء في حال رفضت حكوماتهم استقبالهم بسبب حظر السفر. ولم يقتصر الأمر على الفنانين اذ نشرت الاعلامية الكويتية ناديا المراغي مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي سخرت فيه من رائحة الوافدين المقيمين في أحد مراكز الإيواء قبيل ترحيلهم. 

وفي مقابلة مع الإعلامي مفيد فوزي على قناة "النهار" المصرية، ادعى ان الكورونا لا تصيب الشعب الهندي ولن تصيب المصريين أيضاً بسبب استخدامهم مادة "الكرومونيوم" في التوابل المتوفرة عند العطارين ونصح الناس بان يضعوها في الطعام لأنها تقضي على الفيروس. فوزي أكد في المقابلة عينها انه قد ثبت علمياً أن الفيروس لا يعيش في ظل ارتفاع الحرارة. وأيضاَ ادعتالإعلامية المصرية أماني الخياط في برنامج "الكبسولة" الذي يعرض على قناة "اكسترا نيوز" ان مناعة المصريين قوية وتقيهم من فيروس كورونا المستجد بسبب تناولهم لشاي التموين الساخن.

تضليل وسوء تقدير مهنيّ

سقطات مهنية كثيرة وقع فيها الإعلام العربي وما ذُكِرَ أعلاه ليس إلا القليل، وهذا ما يدفعنا للاستفسار عن الأسباب التي تجعل بعض الصحافيين في العالم العربي يخرجون عن أدبيات المهنة ويمارسون التضليل عن قصد أو دونه،  وبعضهم الآخر يروج لخطاب السلطة دون أي مراقبة وتحقق.

تصنف الباحثة الاكاديمية عبير نجار في مقابلة مع "مهارات ماغازين" المؤسسات الاعلامية العربية إلى ثلاثة أنواع،  إعلام تابع للسلطة  يتماهى تماماً مع خطابها، وهو ممول منها بشكل مباشر أو غير مباشر، يسيطر هذا النوع على أغلبية الوسائل الاعلامية في منطقتنا العربية. النوع الثاني بحسب نجار هو الإعلام التجاري الذي يسعى وراء الأرباح والاعلانات وينحصر اهتمامه بزيادة الإيرادات معتمداً على الأخبار المضللة والتقارير الصحافية السطحية. وأخيراً إعلام مستقل يقدم محتوى جيد ومهني بيد أن نسبته صغيرة وتأثيره ضعيف كونه لا يصل إلى شريحة واسعة بسبب ضعف إمكانياته.

 

 

الباحثة الأكاديمية زاهرة حرب من جهتها قالت إن المسؤولية مشتركة بين الصحافيين والمؤسسات الاعلامية، واعتبرت حرب في تصريح لـ"مهارات ماغازين" أن سبب الخروج عن أدبيات المهنة يعود في كثير من الأحيان إلى جهل الصحافيين بأصول المهنة وقلة معرفتهم ودرايتهم في مبادئ التحقق والتدقيق في المعلومات، وهو ما يوقعهم في فخّ المعلومات المضللة بناءً على مفاهيم مسبقة بشأن حالة أو قضية ما أو مواقف نمطية من أشخاص ومجموعات. والبعض الآخر يفعل ذلك عن دراية لإرضاء مرؤوسيه لغايات ربحية أو الإبقاء على مصدر رزقه ناهيك عن الانتهازيين الذين يقومون بذلك عن سابق تصور وتصميم بهدف تسلق المراكز.

تكميم أفواه

صدحت أصوات رسمية في غير دولة عربية تناشد بضرورة انشاء هيئات رقابية رسمية تدقق المحتوى في وسائل الإعلام وتتخذ إجراءات بحق المخالفين الذين ينشرون أخبار مضللة أو ينشرون أسماء المرضى أو يبثون معلومات من جهات غير رسمية. لكن ما يبدو ان المشروع يخفي غايات قمعية تكمم الافواه وتهدد حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومة، هذا ما حذر منه الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، كريستوف ديلوار حين قال "إن تناقل الأنباء المضللة عن الفيروس يشكل ذريعة لسنّ قوانين قمعيّة"، مشيرا إلى أن المزج بين الدعاية والإعلان والشائعات والإعلام "يخلّ بتوازن الضمانات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير".

ورأى ديلوار أن "فيروس كورونا مثال صارخ على العوامل السلبية التي تقوّض الحق في الوصول إلى معلومات موثوق بها".

أو المسّ بالكرامات" استنكاراً واسعاً من الجمعيات والهيئات اللبنانية المدافعة عن حرية الصحافة التي رأت انه سياسة متبعة تمعن في الترهيب والإخضاع وقمع الحرّيات بطرق وأساليب مختلفة.

وقد أعلن مكتب منظمة العفو الدولية في الجزائر ان النظام يحاول استغلال أزمة فيروس كورونا لفرض قبضته على المجتمع المدني والإعلامي.

أما في المغرب فتخشى المنظمات الحقوقية من استخدام قانون ينظم عمل مواقع التواصل الاجتماعي لفرض قيود على حرية التعبير والرأي.

منذ بداية انتشار "كوفيد 19"، شهدنا تدخلاً حكومياً في أكثر من دولة عربية، فقد قام المجلس الأعلى لتنظيم الاعلام في مصر بإغلاق مواقع اخبارية وحجب صفحات الويب وحسابات وسائل تواصل اجتماعي بحجة إثارة "القلق العام" وكذلك أجبرت السلطات المصرية مراسل صحيفة "الغارديان" على مغادرة البلاد لنشره مقالاً يشكك في الرقم الرسمي للمصابين بفيروس كورونا المستجد في مصر. 

وأثار كلام وزيرة الاعلام اللبنانية حول  "ضمان ممارسة عمل الصحفي بحرية مع الأخذ في الاعتبار عدم التسبّب بالإساءة إلى الأمن القومي

وفِي هذا الإطار، تشترط الباحثة في جامعة "سيتي" البريطانية زاهرة حرب على الهيئات الرقابية أن تكون مستقلة تماماً عن السلطة السياسية كي لا تصبح أداة رقابة لقمع حرية التعبير، مشيرة إلى أن الهيئات الرقابية المستقلة لا تحاسب الصحافيين كأفراد بل تصدر قرارات بحق المؤسسات الاعلامية في حال خرقها للقواعد والمعايير المهنية المتفق عليها، وهذا يضع على عاتق المؤسسات اتخاذ إجراءات بحق صحافييها عندما يخلون بالقواعد المهنية التي يجب ان تنص عليها أنظمتها الداخلية. وتتخوف حرب من أن تصبح الهيئات عائقاً أمام حرية الرأي والتعبير بدلاً من أن تكون مكملة له.

لذلك يتوجب على الصحافيين التسلح دوماً بأخلاقيات المهنة والحرص على قيامهم بواجباتهم المهنية من التحقّق والتدقيق والموضوعية قبل النشر تأدية لدورهم الرقابي التوعوي في المجتمع ولاسقاط الذرائع أمام المتربصين بحرية الصحافة.

وفي هذا الشأن تؤكد نجار انه على الصحافي ممارسة الرقابة الايجابية والإحساس بالمسؤولية تجاه جمهوره، ويتوجب عليه تقدير ذاته المهنية بعيداً عن علاقاته مع السلطة وجنوحه لتكديس الأموال والنفوذ. وكذلك تشدد حرب على أنه من واجب الصحافي التحلّي بالمسؤولية الاجتماعية التي تحول دون بث أو نشر اي معلومة أو خبر قد يعرض الاشخاص والمجموعات للأذى، وذلك ادراكاً منه لمسؤولية ودور الصحافي في المجتمع. وتختم زاهرة حرب قائلة أن على الصحافي سؤال نفسه لماذا اختار مهنة الصحافة، وما هو دوره، وما هو الشيء الذي يريد تقديمه لمجتمعه؟

في السياق عينه، تقول الأكاديمية في الجامعة الاميركية في الشارقة عبير نجار انه من الصعب توفر مؤسسة رقابية قادرة على متابعة كل ما يُنشر ضمن الجو الاعلامي الحالي وضمن بيئة إعلامية غنية جداً من حيث العدد والتعقيد. ولا ترى انه بالامكان ايجاد جهة رقابية عربية مستقلة عن الحكومات التي تنظر الى الاعلام على أنه إما أداة للدعاية لولي الأمر أو سلاح ضد الخصوم أو في أحسن الأحوال جزءاً من سياستها الناعمة مع الجمهور في المنطقة. وتخلص نجار  إلى أن المجالس الرقابية لن تمارس دوراً نقدياً منحازاً لمصلحة الجمهور وجودة المعلومات والتحليلات إنما لخدمة الأنظمة والتيارات السياسية.

لا ريب في أن التفكير بهيئات رقابية على الإعلام في عالمنا العربي سيوظّف لصالح الأنظمة وسيقوض حرية الرأي والتعبير وحق الوصول إلى المعلومات