وتحترم وسائل الإعلام، وفق ما شرح الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية علي رمال لـ"مهارات ماغازين" التنوّع الديني في الأعياد الدينية فقط، أي بشكل ظرفي، فيما يبدو هذا التنوّع هامشياً في البرامج الحوارية، وسلبياً تنازعياً في الحياة السياسية.
ويتعاطى الإعلام مع التنوّع الديني، وفق رمال، من منظور سياسي، وهو ما يفسّر الظهور الديني في البرامج الاجتماعية التي تعالج قضايا معينة تحتاج الى ظهور متوازن بين رجال دين من طوائف مختلفة.
ويُشكل استخدام وسائل الاعلام والجهات السياسية للدين في إطار الصراعات والانقسامات الحاصلة، وفق رمال،مشهديّة تضعف التنوّع الديني في الإعلام. وهي إن كانت مرضية للإعلام، لكنها تتناقض مع التنوّع الديني الذي يدعو الى التعاضد والتسامح.
بحسب القوانين، يرعى الدستور اللبناني التنوّع الديني حصراً، لكن يختصر في ذكر التقسيم الطائفي واحترام حقوق الطوائف. وفي حين يبقى الإعلام الديني المرئي والمسموع خارج الإطار التنظيمي العام للإعلام اللبناني، يخضع الإعلام المكتوب لقانون المطبوعات الذي ينظّم قواعد النشر وحماية الحريات العامة والفردية، إلا أنه لا ينصّ صراحة على كيفية إدارة التنوّع.
لا يشكّل تعزيز التنوّع الديني أولوية لدى وسائل الإعلام في لبنان، البلد الذي يعدّ مركزاً مهماً للتنوّع الديني والثقافي. ولا تحظى القضايا المرتبطة بهذا التنوّع بمساحة إعلامية كافية، إلا بشكل ظرفي، خلال مواسم الأعياد الدينية مثلاً أو من بوابة السياسة.
مع وجود ثلاث ديانات هي المسيحية والإسلام واليهودية، تتفرّع عنها 18 طائفة معترف بها رسمياً، يعبق الفضاء اللبناني بوسائل إعلام دينية عابرة للحدود. لكنّها تركّز بمعظمها على التعاليم الدينية الخاصة بكل منها وما يرتبط بها في مجالات الاجتماع والسياسة، بعيداً عن طرح قضايا جدليّة وفتح مساحة للحوار مع الطوائف الأخرى.
عادةً ما يعكس مضمون ما تبثّه أو تنشره وسائل الإعلام العادية الواقع السياسي والطائفي المتأزم في البلاد.ورغم أنّه قد يغطي قضايا التنوّع الديني، لكنها لا تحتل صدارة اهتماماته.وغالباً ما تأخذ تغطية الحدث الديني حيزاً رئيسياً عندما يتخللها حدث أو خطاب سياسي، أو تأتي ذات طابع ثقافي أحياناً أو إخباري، فيكتفي الإعلام بنقل الخبر في نشرات الأخبار أو في برامج ثقافية واجتماعية.
إعلام ديني "منغلق"
وقال الباحث والمحرر في مؤسسة "أديان" روجيه أصفر لـ"مهارات ماغازين" إنّ "كثير من المسؤولين في الطوائف الدينية اللبنانية لا يعتبرون أن هناك جمهوراً مهتماً بالتنوّع الديني، لذا تركّز كل طائفة على نشر مقارباتها الدينية لجمهورها".
وتوقّفت الصحافية المتخصّصة في الإعلام الديني ماري تيريز كريدي لـ "مهارات ماغازين" عند الفرق الكبير بين المؤسسات الإعلامية الدينية التي تهتم بطوائفها ومشاريعها وبيئتها الخاصة، وبين منصّات تعمل على نشر الحوار والتنوّع الديني.
ورأت أنّ المؤسسات الإعلامية الدينية بغالبيتها باتت منغلقة على طوائفها وعلى السياسة الخاصة بها إلى حدّ كبير، ويتم توظيفها أحياناً لتأجيج الفتن ونقل الأخبار من زاوية واحدة وغسل أدمغة المشاهدين وتحريضهم على الطوائف أو المذاهب الأخرى، وبثّ خطاب الكراهية والعنف، مع الاختباء خلف حقوق الطائفة وحصّتها بالسياسة أو بالمناصب وغيرها.
ويتنافى ذلك مع دور الإعلام الديني ويعطي صورة سلبية عنه، كما أنه ينعكس سلباً على جمهور هذه الوسائل وقدرته على العيش في وطن واحد مع الطوائف الأخرى، ويذكّر بالحرب الأهلية والانقسامات.
وأبدى رمال أسفه لكون المحطات الدينية ذاتها "لا تبثّ التنوّع الديني، بل تعمل على تكريس أيديولوجية معينة لدى الجمهور تبعاً للمؤسسات الدينية التي تملكها".
وخلصت دراسة عن "الإعلام الديني في لبنان"، صادرة عن مؤسسة مهارات وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2017، إلى أنه "يبدو واضحاً من الأهداف التي حدّدتها المؤسسات الإعلامية الدينية في لبنان لنفسها أنها تعمل انطلاقاً من رؤية معيّنة للواقع الاجتماعي العام: الديني والسياسي والوطني".
ونبّهت إلى أنّه "إذا كان الاهتمام يتركّز على الناحية الدينية لكنّه يتخطى هذه الزاوية الى أهداف أوسع تتناول بناء المجتمع والإنسان. فلكلّ مؤسسة جمهورها الذي يشكّل هدفها الأول، وهي تتوجّه إليه انطلاقاً من المبادئ الدينية التي تدافع عنها وقامت على أساسها".
منصّة تعددية
وسط هذا الواقع، تُعد تجربة منصّة "تعددية"، التي أطلقتها مؤسسة أديان عام 2017، من التجارب النادرة لمنصّات إعلامية تهدف الى تعزيز ثقافة التنوّع الديني وقبول الآخر في لبنان والعالم العربي.
ضمن برنامج "فينا نحكي دين"، الذي تعرضه المنصّة، يظهر شيخ من الطائفة الشيعيّة وآخر من الطائفة السنية جنباً الى جنب في حلقات متتالية على مواقع التواصل الاجتماعي. هل يحب السنّة أهل بيت الرسول؟ هل لدى الشيعة قرآن مختلف؟ هل كل السنّة "دواعش"؟ يفنّد كل من الشيخين خلال الحلقات ما يشاع من أفكار نمطية وشائعات عن طائفة كل منهما بحديث ودّي يستخدم الحجج المنطقية والإقناع.
ويساهم البرنامج، وفق القيّمين عليه، في تغيير الكثير من الأفكار المسبقة والمغلوطة، التي تحملها مختلف الطوائف عن بعضها البعض.
وتعتمد "تعددية: في معالجتها، وفق ما شرحت منسّقة الإعلام الرقمي في "أديان" كرستينا بطرس لـ"مهارات ماغازين"، الإضاءة على قصص نجاح أبطال في مواجهة التطرّف الديني. وتعمل على نشر المعرفة عن الأديان ومحاربة الجهل الذي يُعتبر أساس التطرف، وكذلك على تنمية الفكر النقدي لدى المواطنين للتمييز بين الأخبار الصحيحة والكاذبة حول ديانات معينة، فضلاً عن نشر وتعزيز روح المبادرة لدى المواطنين فيما يرتبط بالتنوّع الديني.
وتركّز المنصة، بحسب أصفر، على مجموعة قضايا مرتبطة بالتنوّع، أولها تعزيز المعرفة بالأديان من خلال عرض مفصل يقدّمه رجال دين متخصصون من هذه الديانات، في محاولة لكسر الصورة النمطية ومكافحة الأخبار الكاذبة التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي حول أتباع هذه الديانات.
وبحسب بيانات "تعددية"، وصل محتوى المنصّة إلى 80 مليون مستخدم عبر "فايسبوك". وساهم في تغيير لغة الأشخاص الذين يتفاعلون عبر المنصة بشكل إيجابي، لتصبح حسّاسة أكثر تجاه المصطلحات الدينية وباتت التعابير المستخدمة مراعية للتنوع.
مبادرات تربوية
إلى جانب منصّة تعدّدية، أظهرت مبادرات تربوية عدّة في المجال الديني في لبنان والعراق نتائج جيدة، لجهة نشرها الوعي وثقافة الانفتاح وتقبل الآخر، أبرزها دبلوم "الأديان والإعلام" في الجامعة اليسوعية الذي انطلق عام 2012.
وأوضحت مؤسسة ومنسقة الدبلوم الجامعي كاتيا ريّا أن انطلاقه كان من فكرة أساسية مفادها تبادل الخبرات بين الصحافيين والناشطين وبين رجال الدين، أي أن يعرف الصحافي عن الدين وأن يحصل رجل الدين على خبرات إعلامية وصحافية، لرفع مهارات التواصل الايجابي لديهم. كما هدف الى التوعية من إساءة استخدام الدين، وتعزيز معرفة الصحافيين بالمصطلحات والثقافة الدينية الصحيحة.
وأكدت ريّا لـ"مهارات ماغازين" أنّ التغيير بدا واضحاً لدى الطلاب، الذين يأتون من مختلف البلدان العربية وإيران، لناحية تعزيز ثقافة قبول الآخر والحوار. ونال العديد من الصحافيين المشاركين في الدبلوم جوائز في مجال التنوّع الديني والثقافي لاحقاً.
ومن التحديات الأبرز لدى القائمين على الدبلوم، وفق ريّا، "تغيير الصورة النمطية لدى جميع المشاركين عن بعضهم البعض، لا سيّما انهم يأتون من خلفيات وثقافات مختلفة، ومحاولة بناء ثقافة جديدة تقوم على التفاعل الإيجابي بين الأديان والإعلام عبر التواصل والمشاركة وبثّ ثقافة السلام، التي باتت حاجة ملحّة في مجتمعاتنا".
تحديات إعلام التنوّع
وقد تتعرض الوسيلة إلى انتقادات أو عدم تقبل من جمهورها، إذا ما كان غير معتاد على مواضيع تتعلق بالتنوّع الديني، عدا عن أنّها قد تواجه صعوبات في تغطية المواضيع المتعلقة بالتنوّع الديني، بسبب الأحكام المسبقة لدى الأطراف المعنية.
على نسق التحديات التي تواجه الإعلام الذي يعزّز التنوّع الديني، تواجه المؤسسات العاملة على تعزيز التنوّع تحديات مماثلة.
وتوقّفت رئيسة مؤسسة "أديان" الدكتورة نايلة طبارة عند تخوّف السلطات من طرح أديان الذي يركز على التنوّع الديني. لكنها اعتبرت أن هذا التخوف غير صحيح، إذ أن هدف المؤسسة هو نشر الخطاب الديني القيمي والروحي، لا الخطاب الذي يعزز الهويات الضيقة على حساب الهوية الوطنية.
أمّا التحدي الآخر فهو إعادة العمل على إنتاج خطاب ديني متجدد، يأخذ بعين الاعتبار التنوّع والحوار، من خلال العمل مع المرجعيات الدينية لتبني هذا الخطاب، لا الخطاب الديني البحت.
تواجه تحدّيات عدة المنصّات المتخصّصة في التنوّع الديني، أبرزها نقص التمويل الذي يحدّ من إمكاناتها وقدرتها على توظيف كوادر متخصّصة ومهنية. كما أنّ الوصول إلى الجمهور بات صعباً مع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لأساليب جديدة تجبر المنصّات على دفع الأموال مقابل نشر المحتوى ووصوله الى جمهور أوسع.
وتحدّثت كريدية عن تحديات أخرى بينها تعرّض المنصات للإقصاء، لا سيّما أن بعض المجتمعات الدينية تسعى إلى السيطرة على محتواها، عدا عن أنّها ربما لا تجذب جمهوراً كبيراً خصوصاً مع عودة الخطاب الطائفي في لبنان وغياب الإعلام المتحرر من كل تبعية.
وتصطدم وسائل الإعلام الدينية في حال توجهت نحو تعزيز التنوّع الديني، وفق كريدية، بتحديات عدّة أبرزها تحديد أولويات وسياسة المحطة تجاه هذا النوع من البرامج والمواد الإعلامية، عدا عن الحصول على موافقة ورضى المعنيين والمسؤولين والارتباط بالمعلنين ومعرفة هامش التحرك المتاح لتغطيات مماثلة.