تبدّل مشهد الحريات الدينيّة في السودان بعد سقوط نظام البشير في العام 2019، ونجح نضال المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية العاملة على تعزيز التنوع الديني. وبعد ما لاقته هذه المؤسسات من تضييق خلال عهد النظام السابق، استطاعت أن تؤثّر بشكل إيجابي على المجتمع السوداني.
ورغم غياب إعلام ديني متخصّص، إلا أنّ المشهد الإعلامي السوداني تضمّن وسائل اعلام وسطية حاولت من خلال تغطيتها أن تكون حسّاسة لقضايا الأقليات الدينية، خصوصاً الأقلية المسيحية التي واجهت الكثير من القمع والتهميش بعد استقلال جنوب السودان في العام 2011.
وساهمت الضغوط الإعلامية في حصول الأقليات الدينية على بعض من حقوقها، وفق ما شرح مدير راديو "بكرة" فيصل محمد عبد اللطيف لـ"مهارات ماغازين"، بعدما أحدث الإعلام المتحسّس للتنوع الديني تغييراً إيجابياً لناحية تعاطي المجتمع والسلطة.واتُخذت سلسلة إجراءات وإصلاحات بينها توفير الحق في حرية المعتقد الديني والعبادة بموجب الإعلان الدستوري لعام 2019، والجهود المبذولة لمكافحة التمييز والكراهية على أساس الدين أو المعتقد، وإدراج عيد الميلاد ضمن الأعياد الوطنية وإلغاء تجريم الردة، وتعيين سيدة مسيحية قبطية في مجلس السيادة، وتعليق قانون يُلزم المدارس المسيحية بالعمل يوم الأحد، وحل المجالس الكنسية المعينة من النظام السابق، وفتح إجراءات عدلية لإعادة الأراضي التي صادرها النظام السابق من الطوائف المسيحية. وقد ساهمت هذه الإصلاحات في وضع السودان خارج قائمة انتهاك الحريات الدينية.
وقدّمت الصحيفة، التي تضمّ صحافيين يملكون خبرة في المجال الحقوقي والحريات الدينية، معالجات معمّقة للقضايا المرتبطة بالتنوع الديني والتعدّد الثقافي، من أجل تعزيز تقبّل الآخر والابتعاد عن ثقافة الصراع الذي بدأ منذ العام 1955 مع جنوب السودان، وصولاً الى صراع جبال النوبا وإقليم دارفور.
بعد الثورة، سلّطت الصحيفة الضوء على أخبار تبرز التنوع الديني في المجتمع السوداني، إضافة الى عرض ثقافة الأقليات العرقية، وساهم هذا الجهد بشكل إيجابي في منح المسيحيين بعضاً من حقوقهم.
وشهد السودان، وفق سعد،مبادرات عدّة من المجتمع المدني، لتعزيز التنوع الديني والثقافي، لكنّهاتعرّضت للتضييق و"البطش الأمني" من النظام السابق.
ولعلّ أبرز من عمل حينها على هذه القضايا، وفق سعد، المركز الإقليمي للتدريب وتنمية المجتمع المدني، مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية، ومركز الدراسات السودانية ومركز الأستاذ محمود محمد طه.
ويعتبر راديو "بكرة"، الذي تأسس عام 2013، نشر التنوع الديني أحد أهدافه التي يتناولها في إطار التعايش وقبول الآخر، مع وجود طوائف مسيحية متعددة لا دينين.
وعلى رغم عدم وجود منصّات إعلامية تعزّز التنوع الديني في البلاد، لكن ثمّة صحف ومواقع الكترونية عدّة على غرار تجربة راديو "بكرة"، حاولت التوعية وتعزيز التنوع الديني والثقافي، مثل صحيفة "الميدان" التابعة للحزب الشيوعي، صحيفة "مدنية نيوز"، صحيفة "الديمقراطي" وصحيفة "الجريدة".
وقال الصحافي المتخصص في الحريات الدينية حسين سعد لـ"مهارات ماغازين" إنّ هذه المنصات، وعلى رغم ما تبذله من جهود إيجابية ساهمت في تعزيز التنوع وقبول الآخر، إلا أنها لا تلبي الطموحات، آملاً أن يصبح العمل والتغيير الإيجابي أكبر بعد سقوط النظام السابق.
ولفت سعد، الذي يرأس تحرير صحيفة "مدنية نيوز"، إلى أنّ الهدف من تأسيسها عام 2019 كان تعزيز وجود الدولة المدنية، حيث يمكن للجميع أن يعيشوا مهما اختلفت هوياتهم العرقية والثقافية والدينية.
خارطة التنوع الديني
لطالما تميّز السودان، بحكم موقعه الجغرافي "الأفريقي-العربي"، بأنه بلد متعدّد الأعراق واللغات والديانات والنشاطات الاقتصادية، وهو ما جعل ثقافته مركّبة، أو هجينة، بمعنى أنّها ذات سمات وملامح أفريقية وأخرى عربية، إسلامية ومسيحية.
ويُعدّ الإسلام الدين الأكثر انتشاراً، إذ تبلغ نسبة المسلمين، بحسب موقع رئاسة الوزراء، 95% تقريباً، من العرب وغير العرب. ينتشر المسلمون بشكل كبيرفي شمال السودان، حيث توجد مجتمعات مسيحية كبيرة أيضاً، لا سيما في مناطق يكثر فيها النازحون. ويُقدّر عدد السودانيين الجنوبيين الذي نزحوا إلى الشمال هرباً من الحروب بأكثر من 4 ملايين منذ عام 1970 تقريباً. ومعظم سكان الجنوبمن أتباع الديانة المسيحية، وهناك عدد كبير أيضاً من المسلمين. يتبع معظم مسلمي السودان المذهب السني، وهم في الغالب صوفيون تتنوّع الطرق التي يتبعونها، وأبرزهاطريقة الأنصار والطريقة الخاتمية.
وبالرغم من التنوع الديني، شهد السودان العديد من الحروب والصراعات العرقية والدينية، أبرزها في إقليم دارفور وفي جنوب السودان. وهناك عدد من الشكاوى من الأقليات ضد تصرفات السلطات السودانية تجاهها، أبرزها إصدار حكومة ولاية الخرطوم عام 2018 قراراً بإزالة 27 كنيسة في مناطق متفرقة من العاصمة بذريعة مخالفات في بنائها.
وقد عمدت بالفعل إلى إزالة عدد من الكنائس، وهو ما أثار انتقادات داخلية ودولية. وردّت الخرطوم بالتأكيد على أنّ عمليات الإزالة لم تقتصر على الكنائس فقط بل طالت عمليات مساجد وخلايا ومدارس مخالفة أيضاً.
وفي هذا الإطار، يؤكد سعد أن المؤسسات الدينية ذات التأثير على الشارع تكاد تكون قليلة، لأنها ساهمت في ترسيخ أسس النظام السياسي السابق، لا سيما "مجلس الإفتاء الشرعي"، الذي أسّسه نظام البشير وتحول لاحقاً الى "مجمع الفقه الإسلامي". وساهم هذا المجلس في دعم النظام السياسي في حروبه على جنوب السودان، جبال النوبا "النيل الأزرق" ودارفور.
التنوع في التشريعات
تضمّن الدستور السوداني المؤقت لعام 2005 مجموعة من الفقرات التي تشير الى التنوع الديني والعرقي، منها المادة الرابعة التي أكدت أنّ "الأديان والمعتقدات والتقاليد والأعراف مصدر إلهام وقوة للشعب السوداني".
وشدّدت المادة 38 على أنّه "لكل إنسان الحق في حرية العقيدة الدينية والعبادة وله الحق في إعلان دينه أو عقيدته أو التعبير عنهما عن طريق العبادة أو التعليم أو الممارسة أو أداء الشعائر أو الاحتفالات، وذلك وفقاً لما يتطلبه القانون والنظام العام. ولا يُكره أحد على اعتناق دين لا يؤمن به أو ممارسة طقوس أو شعائر لا يقبل بها طواعية".
كما نصت المادة السادسة على أن هناك حقوق دينية على الدولة احترامها تتمثل في "العبادة والتجمع وفقاً لشعائر أي دين معتقد وإنشاء أماكن مخصصة لذلك، تدريس الدين أو المعتقد في الأماكن المناسبة لهذه الأغراض ومراعاة العطلات والأعياد والمناسبات وفقاً للعقائد الدينية".
وسعت السلطات الى تنظيم العمل الديني على المستوى الاتحادي عبر وزارة الإرشاد والأوقاف التي تحوي أيضاً إدارة لشؤون الكنائس. كما يوجد مجلس الكنائس السوداني، وهو الجسم الطوعي المشرف على الكنائس ومسجّل كمنظمة طوعية لدى مفوضية العمل الطوعي والإنساني الاتحادية.