|

غياب تام لحماية الصحافيين في السودان: انتهاكات على كافة المستويات

لطالما عانى صحافيو السودان طيلة السنوات الماضية من الإنتهاكات أثناء التغطيات الإعلامية، في بلد يشهد تقلبات سياسية وأمنية منذ أعوام، دفعت الى إزدياد القبضة الأمنية على الصحافة والإعلام بشكل عام.

“بالرغم من إبراز بطاقتي الصحافية في إطار قانوني، أقدموا على إيقاف التصوير وطالبوني بالذهاب معهم، وكالوا لي الشتائم وتم تهديدي بالقتل حال عدت لتأدية عملي". بهذه الكلمات يروي الصحافي السوداني عيسى دفع الله ما جرى له عند توقيفه من قبل أفراد تابعة لقوات الدعم السريع أثناء قيامه بإعداد تقرير صحافي عن حجم الضرر الناجم عن النهب والسلب لسوق الملجة بمدينة نيالا.

ما جرى لعيسى يختصر معاناة الصحافيين السودانيين الذين يعانون من إنتهاكات جسيمة أثناء تأدية عملهم في ظل غياب تام لأيّة آليات حماية (جسدية ورقمية) لهم تمكنهم من الإستمرار بالعمل بأمان.

وتفاقمت هذه الإنتهاكات منذ 15 نيسان/أبريل 2023 حيث يدور نزاعًا مسلحًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أدت الى شل البلاد والمؤسسات، ومنها المؤسسات الصحافية حيث أضحى النزول الى الميدان أشبه بعملية انتحارية في ظل الاعتداءات الموجهة نحو الصحافيين، منها التي تشكل خطرا على حياتهم وسلامتهم وأخرى التي تقيد  حرية الإعلام وتساهم في نشر خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي. 

انتهاكات قائمة فاقمتها الحرب

لطالما عانى صحافيو السودان طيلة السنوات الماضية من الإنتهاكات أثناء التغطيات الإعلامية، في بلد يشهد تقلبات سياسية وأمنية منذ أعوام، دفعت الى إزدياد القبضة الأمنية على الصحافة والإعلام بشكل عام.

وتؤكد الصحافية أميرة صالح لـ"مهارات ماغازين" أن الصحافيين في السودان ومنذ ما قبل الحرب وهم يتعرضون للإعتداءت أثناء تغطيتهم للتحركات القائمة منذ سقوط نظام البشير في 2018 وحتى انقلاب 25 أكتوبر الذي قام به القائد الأعلى لقوات الجيش السوداني، رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح برهان.

وتضيف صالح: " فضلا عن التعذيب الذي قد يتعرض له الصحافي إذا ما تم اعتقاله، يوجد تحرش بالنسبة للصحافيات وأنا كنت ممن تم اعتقالهم أثناء الحراك بعد انقلاب 25 أكتوبر وتعرضت للتحرش والتهديد بالقتل واستخدام ألفاظ بذيئة، وكان يقال لي عاملة فيها "شيرين أبو عاقلة".

إذًا فإن قضية غياب آليات الحماية اللازمة خلال عمل الصحافيين ليست مرتبطة بشكل جذري بالحرب القائمة، بل هذه الأخيرة أضحت سببًا إضافيًا لزيادة الضغط، الإنتهاكات، والقمع على الصحافيين والصحافيات السودانيين خلال تغطيتهم للنزاعات المسلحة الدائرة في ظل ظروف صعبة وخطرة أودت بالعاملين في الميدان الإعلامي إلى النزوح أو الهروب من مناطق الاشتباك.

وبحسب تقرير نقابة الصحافيين السودانيين حول "تفشي الانتهاكات بحق الصحافيين خلال الشهر الأول من الحرب"، تشير البيانات إلى أن 28 صحافي وصحافيّة، من وسائل إعلامية مختلفة، تم إجلاؤهم من قبل الصليب الأحمر، بعد أن علقوا تسعة أيام وليالٍ في مكاتبهم بالخرطوم، في منطقة خطرة تشهد معارك ساخنة، دون موارد غذائية كافية.

أحد أكبر الإنتهاكات حاليًا هو أن الأشخاص عامة والصحافيين خاصة  لم يعودوا قادرين على ممارسة عملهم، وشهد السودان في الأيام الأولى للنزاع انقطاع بشبكة الإنترنت والإتصالات بشكل متكرر وهذا يشكل انتهاكا لحق الصحافي بتداول المعلومات والتأكد من مصداقيتها، كما يتعرض الصحافيون في السودان للإنتهاك باحتجازهم داخل المقرات الصحافية والتي يطالها الإستهداف، فمثلا هناك جريدة تعرضت لإطلاق نار مرتين، ومقر قناة الشرق في الخرطوم تعرض أيضا لإطلاق أعيرة نارية. 

بالإضافة للانتهاكات المباشرة، عانى الصحافيون من إنتهاكات رقمية متعلقة بقضايا وسائل التواصل والأجهزة الذكية. في هذا السياق، وبحسب مرصد النقابة في تقريرها الأخير، برزت حملة من خطاب الكراهية عبر حسابات على فيسبوك  ضد الصحافيين ووسائل الإعلام، تدعو المواطنين والسلطات إلى طرد الصحافيين والقنوات المحلية من مواقع  الاشتباكات. وظهرت أيضًا حسابات مجهولة ضمن حملات ممنهجة للتشهير بالصحافيين، منهم من تعرض لإتصالات تهديد بالتصفية والقتل، وآخرون صُنفوا على أنهم يعملون لحساب أحد أطراف النزاع في سياق قد يُعرض حياة هؤلاء للخطر.

ويقول الصحافي السوداني حيدرعبد الكريم لـ"مهارات ماغازين": "أنا شخصيا تعرضت لمحاولة إعتقال من قوات الدعم السريع، فقد طلبوا مني في نقطة تفتيش أن أفتح هاتفي المحمول ووجدوا فيه صور لمواطنين ضحايا ماتوا في اليوم الأول من المعارك وبسبب ذلك تعرضت للتهديد بالسلاح وتم توجيه فوّهة البندقية إلى رأسي، وبالتالي بمجرد أن يكون في هاتف الصحافي صور للأحداث الدائرة قد يتعرض للإعتداء". 

بدورها رصدت منظمة "مراسلون بلا حدود" إنتهاكات وغلق مواقع الكترونية وصفحات فيسبوك وتقوم المنظمة بالتنديد بهذه الانتهاكات وتعمل على مساعدة الصحافيين مباشرة وتأهيلهم عبر تدريبات لحماية أنفسهم ومعطياتهم الرقمية. 

وبحسب الصحافي خالد دراريني من  منظمة "مراسلون بلا حدود"،  فإن الأخيرة  تتابع الإنتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون حاليًا في السودان وتناشد الجميع بأخذ الحيطة والحذر وعدم المغامرة بحياتهم من خلال إصدار العديد من البيانات التي تشير إلى خطورة العمل الصحافي في السودان، كما ستحاول  في الأيام المقبلة تزويد الصحافيين في الميدان بخوذات وستائر مضادة للرصاص.

أيُّ دور لنقابة الصحافيين؟

في حين بات تهديد الصحافيين وقمع عملهم في ظل الحرب الدائرة سيد الموقف، تبقى التساؤلات حول آليات الحماية التي يجب على نقابة الصحافيين في السودان تطبيقها خصوصًا بعد تنبيهها أن "إعلان جدة لحماية المدنيين" لم يشر إلى ضمان حق الصحافيين في الحماية والتحرك بحرية لأداء واجباتهم المهنية، التي تكفلها القوانين المحلية والإقليمية والدولية.

إن نقابة الصحافيين السودانيين هي حديثة التكوين، حيث انتظر الصحافيون 33 عامًا لانتخاب نقابة جديدة لهم بعد أن تم حل النقابة القديمة في عهد الرئيس عمر البشير، وأعلنت لجنة الانتخابات في أغسطس 2022 فوز المرشح عبد المنعم أبو إدريس نقيبا للصحافيين، بالرغم من بعض الجدلية عن مدى قانونية النقابة بسبب وجود معارضة لانشائها بدعوى مخالفتها قانون نقابات العمال لسنة 2020، كما عرضت "مهارات ماغازين" في عددها السابق عن النقابات الصحافية في العالم العربي.

 

ويشرح الأمين العام لنقابة الصحافيين السودانيين محمد عبد العزيز لـ"مهارات ماغازين" أن النقابة، وهي نقابة مستقلة َوديمقراطية ،تعمل على حماية الصحافيين وضمان ممارستهم للمهنة في كل الظروف، ولكن منذ اندلاع القتال واجهت النقابة والصحافيين والمهنة ظروفا بالغة التعقيد.

 

 

وعملت النقابة بحسب عبد العزيز على إجلاء عشرات الصحافيين المحتجزين في مواقع عملهم بسبب الإشتباكات بالتنسيق مع الصليب الأحمر وطرفي القتال، كما أنها تسعى لتأمين ملاذات آمنة لمن تعرضوا لتهديدات جديّة داخل السودان وخارجه، وقدّمت النقابة سلسلة من المواد الإرشادية للحماية الجسدية والرقمية في مناطق النزاعات، ونظّمت دورة تدريبية مفتوحة للمراسلين الحربيين. أما مسألة الأمان الوظيفي بعد توقف مؤسسات الإعلام فهي مسألة تفوق إمكانيات النقابة في الوقت الحالي.

وتشير البيانات الصحافية اليومية لنقابة الصحافيين السودانيين والمنشورة عبر صفحتها على فيسبوك لارتفاع يومي ومستمر في الإعتداءات الموجهة ضدّ الصحافيين. وترصد النقابة أوضاع الصحافيين يوميا، وهي كانت قد خصصت أرقامًا للطوارئ للتبليغ عن العالقين والمعتدى عليهم في مناطق النزاع.

في المقابل يرى الصحافي حيدر عبد الكريم أن دور النقابة إقتصر في موضوع الحماية على بعض الإرشادات التوعوية للصحافيين لتثقيفهم حول  كيفية التصرف في مناطق النزاع وكان يتم نشرها عبر صفحاتها على مواقع التواصل الإجتماعي. وأضاف: " في ظل غياب الأطراف المعنية، إستطعنا نحن بمبادرات فردية أن نساعد الزملاء العالقين والذين لا يملكون القدرة  المادية على التحرك والتنقل من الخرطوم لمناطق آمنة".

الحق في السلامة والعمل الآمن

 2- يجب حمايتهم بهذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات وهذا الملحق " البروتوكول " شريطة ألا يقوم بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين…

ووفقًا للمبادئ والممارسات الخاصة بالسلامة العالمية، تُعد حماية الصحافي مهمة مشتركة بين الصحافيين أنفسهم والمؤسسات الإعلامية. ومن المعايير الرئيسية خلال تغطيتهم للنزاعات:

  • جميع الصحافيين مدعوّون للتدريب على السلامة، بما في ذلك جوانبها الرقمية، القانونية، الجسدية والنفسية.
  • يجب أن تسعى المؤسسات الإعلامية على إشراك الصحافيين في تدريبات على السلامة، والإسعافات الأولية وتزويدهم بمعدات السلامة
  • يجب أن تكون المؤسسات الإعلامية مستعدة لتحمل المسؤولية في حال تعرضّ الصحافيين للخطف أو الإصابة.

للصحافي في أي مكان في العالم الحق في أداء عمله بشكل حر وآمن، وتزداد هذه الحاجة في البلدان التي تشهد حروبا ونزاعات، بحيث يتعرض الصحافي للعديد من الإنتهاكات يجد نفسه معها مضطرًا الى المفاضلة بين أداء واجبه المهني وبين الحفاظ على سلامته الشخصية.

وينص القانون الدولي الإنساني على أن الصحافيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في النزاعات المسلحة يجب احترامهم وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد. ويؤمّن القانون الدولي الإنساني للصحافيين المدنيين الحماية نفسها المكفولة للمدنيين طالما أنهم لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.

وتنص المادة 79 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949 على ما يلي:

1- يعد الصحافيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق المنازعات المسلحة أشخاصًا مدنيين ضمن منطوق الفقرة الأولى من المادة 50.

 

أمّا في السودان، توجد قوانين خاصة  بالصحافة وحرية الرأي مثل قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009، ولكن الإشكالية تكمن في أن الصحافيين يُحاكمون بأكثر من قانون ويوجد تداخل لمجموعة قوانين مع بعضها البعض، بالإضافة إلى نصوص قانونية في القانون الجنائي تشكل الأساس في محاكمة الصحافيين.

 ولفترة قريبة كان هناك قانون جهاز الأمن والمخابرات وكان يتم تطبيقه على الصحافيين، وكان لأفراد الأمن الحق في اعتقال الصحافيين في أي وقت بسبب قضايا النشر. كما يوجد قانون جرائم المعلوماتية لسنة 2007 والذي تم تعديله سنه 2020، وهو لا يحاكم فقط الصحافيين، بل كل الفضاء الرقمي وكل ما ينشر عبر الانترنت.

إن الصحافة الحقيقية، الحرة، والمحمية من الإنتهاكات والتعدّيات هي التي تساهم في نشر المعلومات والوعي بين أفراد المجتمع، وبالتالي أي قيود أو إنتهاك تتعرض له يفتح الباب لإنتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة والتي قد ترتقي بخطورتها في أماكن النزاعات للحد الذي يكلف المدنيين أرواحهم.